في الأربعينيات من القرن الماضي أطلق المخرج الإيطالي "روبيرتو روسلليني" مقولته السينمائية الشهيرة (قبل كل شئ علينا أن نعرف الناس كما هم، يجب أن نحمل الكاميرا و ننطلق إلى الشوارع و الطرقات و ندخل البيوت، إذ يكفي أن نخرج إلى أي منعطف و نقف في أي مكان، و نلاحظ ما يدور بعيون يقظة لكي نخرج فيلما سينمائيا ايطاليا حقيقيا).
ربما كانت هذه المقولة السينمائية الهامة التي أطلقها "روبيرتو روسلليني" معبرة عن وجهة نظر تحمل قدرا ما من الأيدلوجية بعد اندحار الفاشية؛ و لذلك رغب في الخروج إلى الشارع و التعرف على الناس واتجاهاتهم و رغباتهم و أحلامهم و آمالهم في مقابل المد الفاشي المنصرم، إلا أنها في ذات الوقت كانت بداية حقيقية لسينما الواقعية التي بدأت تسود العالم منذ ذلك الحين، حينما خرجت الكاميرا المحمولة إلى الشارع، و لعل فيلمه الهام "روما مدينة مفتوحة"1944 (الذي عبر عن معاناة سكان مدينة روما تحت الاحتلال الألماني، المدينة التي ما زالت تعاني أهوال و خراب الحرب، و الذي قدمه عام 1945 كمانفيستو للمدرسة الجديدة التي أطلق عليها اسم الواقعية الجديدة)[1]بعد اندحار الفاشية خير دليل على ذلك.
و لكن، لعل السبب الأساس الذي أدى لبداية ظهور السينما الواقعية في ايطاليا و من ثم انتشارها فيما بعد في جميع أرجاء العالم، هو تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مر بها العالم و على وجه الخصوص أوروبا إبان الحروب العالمية في ثلاثينيات و أربعينيات القرن المنصرم؛ مما أدى إلى إفلاس الكثير من المصارف المالية التي كان يلجأ إليها جميع صنّاع السينما تقريبا للصرف على البلاتوهات و استوديوهات السينما، و ما تحتاجه تلك البلاتوهات من أدوات و كاميرات و روافع و ما إلى ذلك، و هنا وقع جميع صناع السينما الإيطالية في مأزق عدم وجود الموارد المالية التي لابد من توافرها من أجل إنتاج أفلامهم المزمع صناعتها، إلا أنهم للخروج من تلك الأزمة الطاحنة المهددة لصناعة السينما عندهم بالموت فكروا في الخروج إلى الشارع و التصوير في المنازل بدلا من البلاتوه؛ فحملوا الكاميرا على أكتافهم، و كان خروجهم إلى الشارع إيذانا بمولد موجة جديدة في السينما العالمية أطلقنا عليها اسم الواقعية الجديدة التي تمتح مادتها الخام من البشر العاديين الذين دخلوا لأول مرة داخل الكادر كخلفية بشرية- حقيقية و حية- للممثلين الحقيقيين- سواء كان هذا الدخول بأصواتهم فقط أم بأجسامهم أيضا-؛ و بالتالي اكتسبت صناعة الأفلام السينمائية المزيد من الصدق و الموضوعية و الواقعية لأنها تعاملت مع الطبيعة التي يعرفها الناس- لا الطبيعة المصنوعة داخل البلاتوه-.
و لكننا نلاحظ أن هذا الاتجاه على الرغم من أهميته في تاريخ السينما العالمية، إلا أنه كان وليد المصادفة البحتة- بمعنى أنه لم يكن مرتبا له أو مبنيا على نسق فكري معين في بدايته- نتيجة الظروف الاقتصادية التي مرت بها صناعة السينما في ذلك الوقت، إلا أن هذا الاتجاه بدأ ينتشر في العالم كله و يلاقي الكثير من القبول و الإعجاب فيما بعد.
و في أواخر السبعينيات من القرن الماضي و بداية الثمانينيات كانت السينما المصرية تسبح في لجة مظلمة بسبب الكثير من الأفلام التي لا تمت للسينما بصلة، و البعيدة عن عالمها الحقيقي كل البعد، تلك الحقبة التي أطلقنا عليها ما أسميناه بأفلام سينما المقاولات التي اتخذت من السينما وسيلة هامة من وسائل التربح فقط دون الاهتمام بصناعة السينما كصناعة جادة، و بالتالي كان الكثيرون من المنتجين و المخرجين يهتمون بصناعة أفلام و القيام بتعليبها في شرائط فيديو دون الاهتمام بالعرض السينمائي من أجل تصديرها و بيعها لدول الخليج التي تغدق عليهم الكثير من أموال النفط- التي لن تأتيهم من السوق السينمائي المصري إذا ما اهتموا بصناعة سينما جادة- إلا أنه في تلك الآونة بدأت بعض الأصوات السينمائية الجديدة، و الجادة في تعاملها مع ذلك الفن البصري في الظهور على السطح الآسن لثقافتنا السينمائية، و لقد كانت تلك الأصوات تحمل الكثير من الهموم و الآمال و الطموحات و الثقافة البصرية ما يؤهلها لإحداث ثورة من حيث المضمون و الشكل في صناعة السينما المصرية آنذاك، لاسيما أنهم كانوا يعملون في مجال السينما منذ فترة ليست بالقصيرة، إما من خلال صناعة الأفلام التسجيلية مثل "خيري بشارة" الذي قدم "صائد الدبابات"1974 و غيرها من الأفلام التسجيلية التي كان آخرها- قبل بدء مرحلة السينما الروائية- "حديث الحجر"1979 ، "داود عبد السيد" الذي قدم كذلك العديد من الأفلام التسجيلية الهامة منها "وصية رجل حكيم في شئون القرية و التعليم"1976 ، كذلك فيلمه "العمل في الحقل"1979 و غيرها من الأفلام الهامة، و "محمد خان" أيضا الذي خرج من كنف السينما التسجيلية، أو العمل بكتابة السيناريو مثل المخرج "رأفت الميهي" منذ بدايته عام1967 بسيناريو فيلم "جفت الأمطار" للمخرج "سيد عيسى"، حتى آخر سيناريو كتبه لغيره من المخرجين عام1975 "على من نطلق الرصاص" للمخرج "كمال الشيخ".
و هنا رأينا فيلم "ضربة شمس" أولى أفلام المخرج "محمد خان" الروائية الطويلة عام1980 الذي كان إيذانا بميلاد موجة جديدة في السينما المصرية أطلقنا عليها اسم الواقعية الجديدة أو السينما الجديدة- كما يفضل الناقد أحمد يوسف أن يطلق عليها- التي اهتمت اهتماما خاصا بالخروج إلى الشارع و تصوير الناس و الحياة الطبيعية و معاناتهم من خلال الكاميرا المحمولة- تماما كما كان الأمر في السينما الواقعية الإيطالية- و من ثم تتالت علينا في فترة قصيرة العديد من الأفلام التي تهتم بهذه الروح الجديدة للعديد من الأسماء التي انحصرت في "رأفت الميهي" و فيلمه "عيون لا تنام"1981 ، "خيري بشارة" و فيلميه "العوامة70 "، "الأقدار الدامية"1982 ، "عاطف الطيب" و فيلمه "الغيرة القاتلة"1982 ، "داود عبد السيد" و فيلمه "الصعاليك"1985 بالإضافة إلى "محمد خان".
إلا أننا نلاحظ أن ظهور الواقعية الجديدة في السينما المصرية لم يكن وليد المصادفة كما حدث في السينما الإيطالية؛ فلقد كانت ظروف صناعة السينما المنهارة تماما في ذلك الوقت، و انهيار الكثير من الأحلام و الآمال الكبرى الممثلة في الحلم القومي و المد الناصري و انتكاسة1967 بهزيمتنا القصوى، هذا فضلا عن إطلاع جميع هؤلاء المخرجين على جميع التيارات و المدارس السينمائية و منها بالضرورة الواقعية الإيطالية، و غير ذلك الكثير، إرهاصا لبداية تخلّق اتجاه جديد لابد أن يعلن عن نفسه في السينما المصرية.
و لعلنا نلاحظ أن المخرج "عاطف الطيب" كان من أكثر مخرجي الواقعية الجديدة ظهورا و انتشارا و تميزا، لا لأنه أجودهم فنيا؛ و لكن لأنه كان أكثرهم التصاقا بالجماهير و تعبيرا عن الطبقات الكادحة من الشعب المصري و التعبير عن آمالهم و آلامهم و طموحاتهم و معاناتهم الشديدة التي استطاع نقلها إلى شاشة السينما بصدق، و لعل فيلمه الثاني "سواق الأتوبيس"1983 يعد من أكثر أفلامه واقعية و ميلودرامية أيضا و اقترابا من الناس و معاناتهم حينما قدم سائق الأتوبيس الذي يحاول باستماتة إنقاذ ورشة والده من البيع في المزاد العلني في حين أن الجميع غير مهتمين بذلك و ما صاحب هذا من أخلاقيات الأنا التي ابتعدت عن الاهتمام بالغير، تلك الأخلاق الجديدة التي صاحبت فترة الانفتاح الاقتصادي و ما صاحبها من تغير قيمي و أخلاقي و سلوكي، ثم تتالت أفلام المخرج "عاطف الطيب" فيما بعد فقدم عام1984 فيلمه "الزمار" الذي منعته الرقابة منعا باتا من العرض الجماهيري، و إن كان قد شارك في مهرجانات موسكو، برلين، القاهرة- نظرا لما يحمله من رسالة ثورية تحث الناس على المطالبة بحقوقهم- على الرغم من تجريدية الفيلم و ابتعاده التام عن السياق الواقعي الذي يميز سينما "عاطف الطيب" و اعتماده أكثر على الفكرة- إلا أنه سمح له بالتداول على أشرطة فيديو فقط- ثم رأينا عام1986 ثلاثة أفلام هامة دفعة واحدة و هي "الحب فوق هضبة الهرم"، "ملف في الآداب"، "البرئ" و هنا نلاحظ أنه اقترب في فيلميه الأوليين كثيرا من معاناة الطبقات الكادحة و البرجوازية في المجتمع المصري، فنراه في الفيلم الأول يصور معاناة شابين تزوجا و لا يستطيعا إيجاد شقة يمارسا من خلالها حياتهما الطبيعية، إلى أن يندمجا- في لحظة عاطفية و في مفارقة واضحة تحت سفح الهرم- في ممارسة حبهما فيتم القبض عليهما بدعوى الفعل الفاضح و اتهامهما بدلا من اتهام المجتمع و السلطة اللذين يتحملان العبء الأكبر مما حدث، بينما نراه في الثاني يقدم فتاة يعرض عليها أحد الشباب الزواج و بالتالي فلم تكن تتخيل أن ذهابها معه هي و صديقيها و رئيسها في العمل لرؤية شقته التي يمتلكها في وسط البلد ستكون سببا لاتهامهم جميعا بالدعارة من قبل أحد الضباط المصابين بالبارانويا- و ما أكثرهم، و كأن وزارة الداخلية حريصة على اختيار المرضى النفسيين ليكونوا ضباطا أو أنهم يتعلمون مثل هذه الأمراض داخل كلية الشرطة-، إلا أنه في فيلمه الثالث يكاد يكون تخطى الخطوط الحمراء رقابيا و سياسيا بحديثه عن بطش السلطة و ما يدور في المعتقلات من تعذيب و قتل و إهانة؛ و بالتالي حدثت لهذا الفيلم مجزرة رقابية و تم منعه من العرض و لم يتم الإفراج عنه إلا بعد حذف مشهد النهاية الذي يعد أهم ما في الفيلم لاكتمال رسالته الثورية التي يرغب في قولها.
و من هنا نلاحظ ملاحظة هامة مفادها أن اهتمام "عاطف الطيب" بالتعبير عن الطبقات الكادحة و البرجوازية و معاناة القسم الأكبر من المجتمع المصري كان هو شغله الشاغل و هاجسه الذي يؤرقه دائما، و لقد كان يرجع دائما السبب في مثل هذا الاهتمام إلى بطش السلطة و اختلال النظام السياسي الذي نعيش في ظله، نلاحظ ذلك في قوله (مشكلات الطبقة المتوسطة التي أعبر عنها سينمائيا ناتجة في أغلبها عن قهر سياسي.. انه القهر الذي تواجهه إذا دخلت أي قسم بوليس في مصر.. فلن تعامل معاملة كريمة إلا لو كنت رئيس جمهورية.. إحساس المواطن بالقهر يجعله في حالة كمون مرعب.. و أرى أن مهمتي كمخرج هي تحضير هذا المواطن و تجهيزه للحظة الانقضاض، و إقناعه أن الكلام في السياسة ليس تطاولا)[2] و لهذا بدت جميع أفلامه تقريبا و كأنها رسالة تحريضية للمواطن المهضوم حقه، الذي يعاني ليل نهار من تلك السلطة الغاشمة التي تنتهكه ساعة بعد أخرى.
و لذلك لم يكن غريبا على "عاطف الطيب" أن يقدم لنا فيلمه "ليلة ساخنة" الذي نراه أكثر أفلامه على الإطلاق اكتمالا فنيا سواء من ناحية السرد السينمائي أو من ناحية المضمون- على الرغم من يقيننا التام أن فكرة الكمال الفني هي فكرة منتفية دائما لأنه لا يمكن لها أن تحدث- و لعل هذا الاكتمال الفني له من العوامل المساعدة "لعاطف الطيب" الكثير الذي أدى إلى خروج فيلمه في النهاية بمثل هذا الشكل الفني الناضج، و قد يكون من أهم هذه العوامل أن كاتب السيناريو هو السيناريست المخضرم "رفيق الصبان" بينما كتب الحوار "محمد أشرف"، و قد شارك السيناريست المميز "بشير الديك" كليهما في كتابة السيناريو و الحوار.
و بالرغم من إيماننا بأن المخرج الجيد لا يمكنه صناعة فيلم سينمائي محترم فنيا إلا إذا كان بين يديه ورقا مكتوبا بشكل جيد، ففي المقابل أيضا نرى أن الورق الجيد لا يمكن أن يصنع مخرجا جيدا، و من هنا فقد اجتمع عاملان هامان لصناعة هذا الفيلم- الورق الجيد، و المخرج الواعي الجاد- بالإضافة إلى عامل آخر أكثر أهمية و هو النضج الفني و الخبرة التي اكتسبها "عاطف الطيب" منذ بدايته عام1982 حتى قام بإخراج هذا الفيلم الذي خرج بهذا الشكل المكتمل.
و لذلك رأينا "عاطف الطيب" في هذا الفيلم أكثر روية، و أكثر بعدا عن الميلودرامية، بل و أكثر اهتماما بمعاناة الطبقة البسيطة- العريضة- من المجتمع المصري، تلك الطبقة التي لا يهتم بها الكثير من صناع السينما على الرغم من أن معاناتهم تكاد تكون فانتازية بشكل عبثي و كأنها خارجة من مسرح اللامعقول لدى "يوجين يونسكو"، "صمويل بيكيت"، فرأيناه يعبر عنها و يتحدث بلسانهم و إحساسهم حتى لقد بدا الفيلم و كأنه نقلا تاما و كاملا لحياة كاملة من المعاناة و القهر لأناس تحاول نسيان قهرها و أزماتها و معاناتها من أجل محاولة الحياة، و من هنا كان الفيلم حياة حقيقية شديدة الواقعية و التأثير و ليس فيلما يؤديه مجموعة من الممثلين.
و ربما كان أهم ما يميز "ليلة ساخنة" أنه قد اتخذ تيمة الرحلة أو الطريق مسارا لهذا الفيلم العميق الذي يدور في ليلة واحدة داخل أعماق ليل القاهرة و هي ليلة رأس السنة (الكريسماس) لنكتشف من خلال هذه الليلة/الرحلة مجتمعا يمور بالكثير جدا من التناقضات التي بدت لنا على الرغم من إحساسنا بها و حياتنا داخلها يوميا و كأنها غريبة علينا لم نرها من قبل و لم نعرفها- و هذا هو سمة الإبداع الجيد الصادق الذي ينقل لنا العادي المألوف و كأنه غريب علينا لأول مرة نلمسه و نعيشه، فيؤثر فينا و نتأثر به، و من ثم لابد أن نتساءل في نهاية الأمر (لما يحدث كل ذلك للملايين من المصريين الذين أهينت كرامتهم بمثل هذا الشكل؟ و لما تفعل بنا السلطة كل ذلك؟)-.
و لعل تيمة الرحلة أو الطريق ليست بجديدة على سينما "عاطف الطيب" الذي قدمها من قبل في بداياته الأولى من خلال فيلمه الهام "سواق الأتوبيس"1983 ، كذلك نستطيع ملاحظة تيمة الرحلة في فيلمه "دماء على الإسفلت"1992 حينما عاد الأخ الأكبر (نور الشريف) من الخارج ليجد أسرته شديدة التفكك، كل شخص في طريق، فيبدأ رحلة البحث و التحري عن كل من شقيقه و شقيقته خاصة بعد اتهام والده بالسرقة لأحد ملفات القضايا الهامة فيفاجأ في النهاية بأن شقيقته قد تحولت إلى فتاة ليل و تتعاطى الهيروين هي و شقيقها الآخر، كذلك فيلمه الهام "كشف المستور"1994 الذي يصور "سلوى"( نبيلة عبيد) التي حاولت تماما نسيان ماضيها في العمل المخابراتي- كداعرة تخدم الوطن على السرير- و فضلت أن تعيش كسيدة مجتمع مرموقة، إلا أن بعض رجال المخابرات لا يتركونها و شأنها و من ثم يطالبونها بعملية جديدة على فراش أحد الدبلوماسيين العرب، و هنا تبدأ رحلة البحث عن رئيسها المخابراتي السابق (يوسف شعبان) الذي أكد لها هي و زميلاتها حينما قررن ترك هذا العمل أن جميع الملفات و الصور و الشرائط الخاصة بهم قد تم إحراقها، إلا أنها اكتشفت الآن بأنها مهددة بفضحها من خلال هذه الصور و الشرائط إذا لم ترضخ لمثل هذه العملية، و من خلال رحلة بحث طويلة لمحاولة التأكد من ذلك يدور الفيلم، كي يكتشف رئيسها السابق-معها- أن الجميع و هو منهم قد تم خداعه تحت ستار خدمة الوطن في حين كان الأمر في حقيقته لا يعدو أكثر من دعارة و قوادة تقوم بها الدولة و السلطة نفسها، و لقد تم حذف دور "يوسف شعبان" بالكامل تقريبا كضابط مخابرات سابق في هذا الفيلم بأيدي السيد الرقيب، و لعل هذا ليس بالغريب على سينما "عاطف الطيب" الذي تعرضت جل أفلامه للبتر و الحذف و المنع، بل و اتهامه أيضا هو و جميع طاقم العمل معه في فيلم "ناجي العلي"1992 بالخيانة و العمالة نظرا لأنه في جميع أفلامه تجاوز الخطوط الحمراء في مهاجمة السلطة و كشف زيفها.
نقول أن تيمة الرحلة/الطريق في أفلام "عاطف الطيب" لم تكن بغريبة عنه، إلا أنها لم تكن واضحة تماما بالمعنى المألوف لدى العامة إلا من خلال فيلميه "سواق الأتوبيس" الذي دارت معظم أحداثه في الأتوبيس، و فيلمه "ليلة ساخنة" الذي دارت أحداثه كلها تقريبا في التاكسي.
و لذلك نرى "حورية" (لبلبة) الفتاة الفقيرة التي تحاول الحياة بشرف بعد أن تناست تماما ماضيها كفتاة ليل و فضلت العمل كفرّاشة و خادمة كي تنفق و تربي شقيقتها الصغيرة الطالبة، إلا أن "عاطف الطيب" يحرص منذ بداية الفيلم على الإفصاح عن أزمتها المالية القصوى، فهي في حاجة ماسة لمبلغ قد نراه نحن شديد البساطة بينما هو بالنسبة لها ضخما ضخامة الجبال، و هو مبلغ ثلاثمائة جنيه كي تشارك في ترميم البيت الذي تسكن فيه، و الذي نجا من الزلزال و إلا سيتم طردها إلى الشارع بلا مأوى؛ و لذلك نراها تفكر في بيع السلسلة الذهبية المزينة لعنقها كي تدفع المبلغ بدلا من التشرد في الشارع، إلا أن جارها و زميلها في العمل "لمعي" (محمد شرف) يطلب منها التخديم على مجموعة من السهارى الذين سيقضون ليلة رأس السنة في إحدى العوامات، و حينما تعترض على ذلك رافضة و مؤكدة أنها تركت حياتها الماضية تماما و ترغب الحياة بشرف نراه يؤكد لها أنها ستقوم بخدمتهم فقط و تقديم المشروبات و الثلج و أن أقصى ما يمكن حدوثه هو القيام بالرقص لهم إذا اقتضى الأمر في مقابل مبلغ خمسمائة جنيه؛ و لأنها في حاجة قصوى للمال و إلا تم طردها من منزلها توافق على مضض مؤكدة عليه أنها لن تقوم بأكثر من الخدمة و الرقص إذا تطلب الأمر ذلك، لكنها تفاجأ بسائق (الرجل الكبير) صاحب السهرة يهددها مستخدما مطواته إذا لم تدخل الغرفة مع سيده لمضاجعته، و بالتالي تضطر إلى الاستسلام تحت ضغط التهديد و حاجتها للمال، في حين أن الرجل لا يفعل أكثر من وضع رأسه على صدرها و البكاء ثم يعطيها المال بسخاء مما يجعلنا نظن أن أزمتها قد انتهت، إلا أن سائقه "زقزوق" (حسن الأسمر) يدخل عليها الغرفة ليأخذ منها المال عنوة، بل و يستولي على سلسلتها الذهبية التي كانت هي الحل الوحيد للخروج من أزمتها، ثم يقوم بضربها و طردها من العوامة و إلقائها في الشارع.
و لعلنا نلاحظ هنا ملاحظة هامة ساقها المخرج "عاطف الطيب" بذكاء في طيات فيلمه، و هي أن جميع أفراد هذا المجتمع- الهش و المتفسخ على الرغم من بساطتهم و معاناتهم جميعا إلا أن الجميع- يسطو على الجميع بقسوة غير مألوفة و كأننا في مجتمع يأكل فيه القوي الضعيف حتى الموت، فنرى حارس العوامة المعدم حينما يلمح "حورية" (لبلبة) داخلة للعوامة يستوقفها مستفسرا و لا يسمح لها بالمرور إلا بعد جباية مبلغ خمسة جنيهات (كتذكرة) أو رسم دخول، كذلك السائق "زقزوق" (حسن الأسمر) يتعدى عليها بالضرب و سرقة أموالها و سلسلتها الذهبية و طردها للشارع و غير ذلك من المواقف الكثيرة في الفيلم، و لكن بالرغم من تلك القسوة التي يتعامل بها هؤلاء البسطاء مع بعضهم البعض لا نستطيع امتلاك دليل إدانة واحد ضدهم أو مبرر واحد لكراهيتهم؛ نتيجة لأن "عاطف الطيب" قدمهم كشخصيات مطحونة راغبة في لقمة العيش بأي سبيل نتيجة السياسات السلطوية و الاقتصادية المنهارة التي يمر بها المجتمع المصري على أيدي حاكميه منذ فترة ليست بالقصيرة، هذا فضلا عن سياسات القهر السلطوي، فيبدو لنا الأمر دائما و كأنه تفريغ لطاقات القهر المخزونة داخل هؤلاء الأشخاص على بعضهم البعض بما أنهم غير قادرين على توجيه هذه الطاقة في اتجاه السلطة؛ فالسلطة تقهر الجميع من الفقراء، و الفقراء يقهرون من هم أضعف منهم في متوالية دائمة حتى نصل إلى الحلقة الأضعف التي لا خيار أمامها سوى الاستسلام أو الانهيار بترك مجتمع القهر الفوضوي بالموت.
و بالتالي نرى "حورية"(لبلبة) تحاول الهروب و الاستغاثة بأية سيارة مارة، و من ثم تتوقف في عرض الطريق أمام التاكسي الذي يقوده "سيد" (نور الشريف) و الذي يمر بأزمة اقتصادية طاحنة هو الآخر نتيجة لإصابة حماته- التي تقوم برعاية ولده المعاق ذهنيا بعد وفاة زوجته- بجلطة في أول الليل، و حينما يسرع بأخذها إلى المستشفى يفاجأ بضرورة دخولها العمليات في الصباح الباكر، و لكي يتم ذلك تطلب منه الممرضة العديد من الطلبات المستحيلة بالنسبة له قائلة (عايزين أنبوبة أكسجين دلوقتي حالا، وواحدة تانية عشان العملية بكرة، و دوا، و شاش و بنج لزوم العملية) و حينما يسألها (عدم المؤاخذة، هي دي مش مستشفى حكومي؟) ترد ساخرة (آه، بس ما فيهاش الحاجات دي، كفاية انك مش حتدفع للدكتور أجرة ايده، و لا حتدفع فتح أوضة عمليات، و لا أجرة دكتور بنج) في نقل قوي و صريح وواضح لما يدور في مستشفيات مصر من إهمال و فوضى و استهانة بأرواح المرضى من الفقراء على الرغم من ادعاء النظام الحاكم ليل نهار أن هذه المستشفيات مجهزة لخدمة المواطنين و إنقاذ أرواحهم، و كأنهم يتحدثون إلينا من بلاد (واق الواق) و لابد منا نحن البسطاء تصديق أكاذيبهم التي يختلقونها كي يصدقونها هم باعتبارنا نعيش في كوكب المريخ، و بالتالي يقع "سيد" (نور الشريف) في مأزق الحصول على مبلغ ثلاثمائة جنيه خلال هذه الليلة و إلا لن يقوم الطبيب بإجراء العملية لحماته في الصباح، فنراه يعد الممرضة بالإتيان بالمبلغ في الصباح معتمدا على أن الليلة رأس السنة و ربما يرزقه الله بهذا المبلغ أثناء قيادته الليلية.
و لكن لابد من ملاحظة أن "عاطف الطيب" قد استطاع بمهارة و حذق فني و ذكاء بالغ إدخالنا إلى عالمه الذي يرغب في تقديمه دون افتعال أو اختلاق للأحداث لتبدأ رحلة ليلية شديدة الكابوسية لكل من "حورية" (لبلبة)، "سيد"(نور الشريف) طوال الليل القاهري الساهر في ليلة رأس السنة، فتتمثل كابوسيتها بالنسبة "لحورية" في البحث عن "زقزوق" (حسن الأسمر) الذي سرق مالها و سلسلتها الذهبية- أملها الوحيد في عدم التشرد- و بالنسبة "لسيد" في الحصول على المبلغ- أمله الوحيد في إجراء العملية لحماته التي ترعى ولده الوحيد- و من هنا تتلاقى أزمتيهما في طريق واحد، و لأنها تحكي ظروفها "لسيد"(نور الشريف) و تتوسل إليه مساعدتها في العودة إلى العوامة باعتباره قريبها- لأنهم إذا وجدوا معها رجلا ربما يخشونه و يعيدون إليها أموالها- يوافق بشهامة و يذهب معها ليجدهم قد خرجوا للسهر في أحد كباريهات شارع الهرم، و هنا تتوسل إليه أخذها هناك للبحث عنهم قائلة أن الخمسمائة جنيه في كل الأحوال كانت ضائعة فإذا ما ذهب معها ستعطيه نصفهم و تأخذ هي النصف الآخر، و لأنه لم يستطع ترك فتاة ضعيفة وحدها في مثل هذا المأزق، و لأن الظروف كانت دائما في غير صالحه منذ بداية الليل و كأن القدر يصر على إحكام أزمته، فنراه بعد أن يتفق مع أحد الزبائن على عشرة جنيهات مقابل توصيله من وسط البلد إلى عين شمس يخل الرجل باتفاقه معه حينما يصل إلى منزله و يصر على إعطائه خمسة جنيهات فقط بل و الادعاء بأنه- سيد- حاول الاعتداء عليه و بالتالي يتم تحرير مخالفة له و سحب رخصة قيادته من قبل أمين الشرطة المتواجد، و مرة أخرى حينما يطلب منه أحد الزبائن إيصاله إلى الإسكندرية في مقابل مائتين من الجنيهات و يوافق على ذلك، يقابل ذلك الزبون أحد أصدقاءه الذي يقود سيارته الخاصة في بداية الطريق فيفضل النزول من التاكسي للعودة إلى الإسكندرية مع صديقه و بالتالي تضيع عليه المائتين جنيه، و لذلك يوافق "سيد"(نور الشريف) على الذهاب معها في رحلة البحث عن هؤلاء الذين سطوا عليها لتصبح رحلة أشبه بالبحث عن المستحيل.
و لقد لاحظنا أن الفنان (نور الشريف) كان في أنضج حالاته الفنية في هذا الفيلم؛ فرأينا على وجهه ملامح الحيرة و الانكسار و قلة الحيلة طوال مشاهد الفيلم و لعل السبب في ذلك عمله مع مخرج متمكن من أدواته الفنية مثل (عاطف الطيب) الذي استطاع بذكاء تقديم (لبلبة) ربما هي للمرة الأولى في هذا الشكل الناضج فنيا الذي لم نرها فيه من قبل، بل واكتشاف الكثير من قدراتها الفنية التمثيلية، فنراها تقول بصدق مؤثر (اللي زينا ينزل يشتغل و يطلع عين اللي خلفوه على ما يجيب الجنيه) فيرد عليها بائسا (و يا ريته بيروّح بيه).
و لعل هذا الذكاء لدى "عاطف الطيب" الذي جعله يلمح تلك المقدرة الفنية عند (لبلبة) هو ما جعله أيضا يلتقط بذكاء فني الكثير من تحولات المجتمع الجديدة الظاهرة في المجتمع المصري؛ فنرى "سيد"(نور الشريف) حينما يحاول المرور بسيارته (التاكسي) من أحد الشوارع الرئيسية يجده مغلقا بمجموعة ضخمة من الملتحين الواقفين للاستماع إلى شيخهم الواعظ لهم و المعترض على الاحتفال بالكريسماس، و الراغب في ذات الوقت بتطبيق حد الزنا، و حينما يرغب "سيد"(نور الشريف) في المرور يقوم أحد الملتحين بضرب مقدمة سيارته بعصا غليظة في يده قبل السماح له بالمرور مما يؤدي إلى إتلافها.
و هكذا نرى العديد من العوامل الكابوسية و المعطلة لهما في طريقهما/رحلتيهما للبحث عن أموالهما، فتارة يطارده مجموعة من الشباب العابث الذين يلمحون "حورية"(لبلبة) معه في التاكسي و يصرون على أخذها منه لقضاء الليلة معها، و تارة يجد تاكسي قد اضطرمت فيه النيران فيضطر إلى الهبوط لمحاولة الاشتراك في إطفائه، و تارة ثالثة يعود إليه مجموعة الشباب الذين يختلقون معه عراكا لأخذ "حورية" بالقوة و حينما يدافع عنها يضربونه على رأسه بعصا غليظة و يهربون مما يؤدي إلى جرح رأسه و نزيفه، و هكذا تتحول رحلة البحث طوال الليل إلى كابوس طويل لا ينتهي.
إلى أن يركب معه "البنهاوي"(سيد زيان) للتوجه إلى المطار، ثم يطلب منه الذهاب إلى أحد الأماكن قبل الاستمرار في طريقهما، و هناك تحدث مشادة بينه و بين(عزت أبو عوف) لأن "البنهاوي"(سيد زيان)- الذي يقوم بتهريب الشباب إلى اليمن و منها إلى أفغانستان لتفريخ المزيد من الإرهابيين، بالإضافة إلى متاجرته في المخدرات- يرفض إعطاؤه كل المبلغ المتفق عليه، و هنا تحدث مطاردة دامية بين التاكسي الذي يقوده "سيد"(نور الشريف) و بداخله "البنهاوي"(سيد زيان) و بين (عزت أبو عوف) و من معه، لتنتهي المطاردة بمقتل "البنهاوي" على يد مطارديه؛ فيضطر كل من "سيد"، "حورية" للهروب، إلا أنهما يكتشفا أن حقيبة "البنهاوي" التي كانت بيده فيها الكثير من الأموال التي تقرب من المليون، و هنا يقعا في أزمة شديدة الحيرة و لذلك نراهما في بيت "حورية"(لبلبة) بينما الأموال على المنضدة و قد وقفا ينظران إليها بحيرة و خوف، و حينما تحاول "حورية" إقناعه بأن الأموال من حقهما يصر على عدم أخذها و من ثم تسليمها للشرطة مكتفيا بنصيبهما القانوني منها و هو نسبة الـ10% ، فتوافق "حورية" على مضض، و لأنها تخاف القبض عليه بالإضافة إلى رغبتها في المال تطلب منه ترك الحقيبة معها في السيارة كي يدخل هو قسم الشرطة و يرى كيف ستصير الأمر معه، و هناك يفتشونه تفتيشا ذاتيا دقيقا معاملين إياه بإهانة و غلظة، و حينما يجدون معه الكارت الشخصي "للبنهاوي"(سيد زيان) و الذي كان قد أعطاه له بعد إيهامه بأنه يقوم بالتسفير إلى الدول العربية يتهمونه بقتله، و كان دليلهم على ذلك الدماء التي تغطي ملابسه و ذلك الجرح الذي في رأسه الحادث بفعل عراكه مع مجموعة الشباب الراغبين في "حورية"، فيقول له ضابط الشرطة (دا مسجل أمن دولة و مخدرات و أموال عامة... أنت تبع أي فرع فيهم؟) و هنا ينقلب الأمر إلى كابوس حقيقي بالنسبة "لسيد"(نور الشريف) الذي رغب في عدم أخذ أموال ليست من حقه و ذهب لتسليمها و التبليغ عن جريمة قتل فووجه بالقتل و الكثير من التهم الموجهة إليه، و بالتالي يحجم عن إخبارهم بالمال الذي في السيارة مكتفيا بإعطائهم حقيبة السفر الأخرى التي كانت على سقف التاكسي، لنرى "حورية"(لبلبة) تسير وحيدة في الشارع المظلم و قد قزمتها الكاميرا بينما تحمل حقيبة المال على كتفها في انتظار أمل خروج "سيد"(نور الشريف) من أزمته التي وقع فيها.
علّنا نلاحظ هنا أن أمانة الشرفاء حينما تضحى كابوسا لابد لنا أن نتساءل لماذا يحدث كل ذلك في حق هؤلاء المطحونين الذين ليس لهم ذنب في هذه الدنيا سوى الحياة في مجتمع متمزق يحكمه مجموعة من اللصوص من خلال سياسات سلطوية مهترئة من أجل المزيد من تجويعهم و قمعهم يساعدهم في ذلك الكثيرين من الأفاقين و رجال الأعمال الذين يأكلون حقوق هؤلاء المظلومين؟ و لماذا نرى مستشفياتنا التي من المفترض الحفاظ على أرواحنا بمثل هذا الشكل من الإهمال و الفوضى؟ و لماذا يضطر مجموعة من الشباب خريجي كليات الهندسة و العلوم للعمل كحارسي سيارات أمام الكباريهات و حينما يسألهم "سيد" مندهشا عن السبب في ذلك يردون عليه (مش أحسن ما نستنى المصروف؟) و لماذا كل هذا الكابوس الطويل الذي يعيشه المجتمع المصري بسبب حكامه؟
لعل تلك هي الرسالة التي حرص المخرج على إيصالها بإلحاح من خلال جميع أفلامه السينمائية التي قدمها، إلا أنها بدت في ذلك الفيلم- و من خلال هذه الرحلة الطويلة التي انتهت بمأساة صارخة- في شكل طاغ، و لكن هل من الممكن أن يجد المصريون بارقة أمل لالتقاط أنفاسهم من السلطة الغاشمة التي تنهشهم ليل نهار؟
علّ تلك الرحلة الطويلة التي رأيناها و التي أثارت داخلنا الكثير من الألم مما يحدث تكون دافعا للتحرك ضد ما يتم في حقنا بدلا من الانسحاق و الصمت و ثقافة الاستكانة التي بدت واضحة بشكل صارخ في قول "حورية(لبلبة) حينما قال لها "سيد" بعد أن اعتدى أحد الملتحين على سيارته (شوية ماعندهمش خشا و لا دين، و شوية عايزين يخنقونا و يحرّموا علينا حتى الهوا اللي بنتنفسه) فترد عليه بانسحاق ( يا خويا... إحنا مالنا و مال السياسة؟ المهم نشوف شغلنا)!!
محمود الغيطاني
من كتاب سينما الطريق
نماذج من السينما العربية
[1] أنظر كتاب "الموجة الثالثة في السينما الواقعية الإيطالية" لمؤلفه "موسى الخميسي" / سلسلة الفن السابع / العدد87 / منشورات وزارة الثقافة السورية/ المؤسسة العامة للسينما / دمشق2005
[2] أنظر مجلة سينما أون لاين و الموضوع الهام الذي كتبه وائل حمدي بعنوان "الطيب و السلطة"/ العدد11 / يناير2003
ربما كانت هذه المقولة السينمائية الهامة التي أطلقها "روبيرتو روسلليني" معبرة عن وجهة نظر تحمل قدرا ما من الأيدلوجية بعد اندحار الفاشية؛ و لذلك رغب في الخروج إلى الشارع و التعرف على الناس واتجاهاتهم و رغباتهم و أحلامهم و آمالهم في مقابل المد الفاشي المنصرم، إلا أنها في ذات الوقت كانت بداية حقيقية لسينما الواقعية التي بدأت تسود العالم منذ ذلك الحين، حينما خرجت الكاميرا المحمولة إلى الشارع، و لعل فيلمه الهام "روما مدينة مفتوحة"1944 (الذي عبر عن معاناة سكان مدينة روما تحت الاحتلال الألماني، المدينة التي ما زالت تعاني أهوال و خراب الحرب، و الذي قدمه عام 1945 كمانفيستو للمدرسة الجديدة التي أطلق عليها اسم الواقعية الجديدة)[1]بعد اندحار الفاشية خير دليل على ذلك.
و لكن، لعل السبب الأساس الذي أدى لبداية ظهور السينما الواقعية في ايطاليا و من ثم انتشارها فيما بعد في جميع أرجاء العالم، هو تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مر بها العالم و على وجه الخصوص أوروبا إبان الحروب العالمية في ثلاثينيات و أربعينيات القرن المنصرم؛ مما أدى إلى إفلاس الكثير من المصارف المالية التي كان يلجأ إليها جميع صنّاع السينما تقريبا للصرف على البلاتوهات و استوديوهات السينما، و ما تحتاجه تلك البلاتوهات من أدوات و كاميرات و روافع و ما إلى ذلك، و هنا وقع جميع صناع السينما الإيطالية في مأزق عدم وجود الموارد المالية التي لابد من توافرها من أجل إنتاج أفلامهم المزمع صناعتها، إلا أنهم للخروج من تلك الأزمة الطاحنة المهددة لصناعة السينما عندهم بالموت فكروا في الخروج إلى الشارع و التصوير في المنازل بدلا من البلاتوه؛ فحملوا الكاميرا على أكتافهم، و كان خروجهم إلى الشارع إيذانا بمولد موجة جديدة في السينما العالمية أطلقنا عليها اسم الواقعية الجديدة التي تمتح مادتها الخام من البشر العاديين الذين دخلوا لأول مرة داخل الكادر كخلفية بشرية- حقيقية و حية- للممثلين الحقيقيين- سواء كان هذا الدخول بأصواتهم فقط أم بأجسامهم أيضا-؛ و بالتالي اكتسبت صناعة الأفلام السينمائية المزيد من الصدق و الموضوعية و الواقعية لأنها تعاملت مع الطبيعة التي يعرفها الناس- لا الطبيعة المصنوعة داخل البلاتوه-.
و لكننا نلاحظ أن هذا الاتجاه على الرغم من أهميته في تاريخ السينما العالمية، إلا أنه كان وليد المصادفة البحتة- بمعنى أنه لم يكن مرتبا له أو مبنيا على نسق فكري معين في بدايته- نتيجة الظروف الاقتصادية التي مرت بها صناعة السينما في ذلك الوقت، إلا أن هذا الاتجاه بدأ ينتشر في العالم كله و يلاقي الكثير من القبول و الإعجاب فيما بعد.
و في أواخر السبعينيات من القرن الماضي و بداية الثمانينيات كانت السينما المصرية تسبح في لجة مظلمة بسبب الكثير من الأفلام التي لا تمت للسينما بصلة، و البعيدة عن عالمها الحقيقي كل البعد، تلك الحقبة التي أطلقنا عليها ما أسميناه بأفلام سينما المقاولات التي اتخذت من السينما وسيلة هامة من وسائل التربح فقط دون الاهتمام بصناعة السينما كصناعة جادة، و بالتالي كان الكثيرون من المنتجين و المخرجين يهتمون بصناعة أفلام و القيام بتعليبها في شرائط فيديو دون الاهتمام بالعرض السينمائي من أجل تصديرها و بيعها لدول الخليج التي تغدق عليهم الكثير من أموال النفط- التي لن تأتيهم من السوق السينمائي المصري إذا ما اهتموا بصناعة سينما جادة- إلا أنه في تلك الآونة بدأت بعض الأصوات السينمائية الجديدة، و الجادة في تعاملها مع ذلك الفن البصري في الظهور على السطح الآسن لثقافتنا السينمائية، و لقد كانت تلك الأصوات تحمل الكثير من الهموم و الآمال و الطموحات و الثقافة البصرية ما يؤهلها لإحداث ثورة من حيث المضمون و الشكل في صناعة السينما المصرية آنذاك، لاسيما أنهم كانوا يعملون في مجال السينما منذ فترة ليست بالقصيرة، إما من خلال صناعة الأفلام التسجيلية مثل "خيري بشارة" الذي قدم "صائد الدبابات"1974 و غيرها من الأفلام التسجيلية التي كان آخرها- قبل بدء مرحلة السينما الروائية- "حديث الحجر"1979 ، "داود عبد السيد" الذي قدم كذلك العديد من الأفلام التسجيلية الهامة منها "وصية رجل حكيم في شئون القرية و التعليم"1976 ، كذلك فيلمه "العمل في الحقل"1979 و غيرها من الأفلام الهامة، و "محمد خان" أيضا الذي خرج من كنف السينما التسجيلية، أو العمل بكتابة السيناريو مثل المخرج "رأفت الميهي" منذ بدايته عام1967 بسيناريو فيلم "جفت الأمطار" للمخرج "سيد عيسى"، حتى آخر سيناريو كتبه لغيره من المخرجين عام1975 "على من نطلق الرصاص" للمخرج "كمال الشيخ".
و هنا رأينا فيلم "ضربة شمس" أولى أفلام المخرج "محمد خان" الروائية الطويلة عام1980 الذي كان إيذانا بميلاد موجة جديدة في السينما المصرية أطلقنا عليها اسم الواقعية الجديدة أو السينما الجديدة- كما يفضل الناقد أحمد يوسف أن يطلق عليها- التي اهتمت اهتماما خاصا بالخروج إلى الشارع و تصوير الناس و الحياة الطبيعية و معاناتهم من خلال الكاميرا المحمولة- تماما كما كان الأمر في السينما الواقعية الإيطالية- و من ثم تتالت علينا في فترة قصيرة العديد من الأفلام التي تهتم بهذه الروح الجديدة للعديد من الأسماء التي انحصرت في "رأفت الميهي" و فيلمه "عيون لا تنام"1981 ، "خيري بشارة" و فيلميه "العوامة70 "، "الأقدار الدامية"1982 ، "عاطف الطيب" و فيلمه "الغيرة القاتلة"1982 ، "داود عبد السيد" و فيلمه "الصعاليك"1985 بالإضافة إلى "محمد خان".
إلا أننا نلاحظ أن ظهور الواقعية الجديدة في السينما المصرية لم يكن وليد المصادفة كما حدث في السينما الإيطالية؛ فلقد كانت ظروف صناعة السينما المنهارة تماما في ذلك الوقت، و انهيار الكثير من الأحلام و الآمال الكبرى الممثلة في الحلم القومي و المد الناصري و انتكاسة1967 بهزيمتنا القصوى، هذا فضلا عن إطلاع جميع هؤلاء المخرجين على جميع التيارات و المدارس السينمائية و منها بالضرورة الواقعية الإيطالية، و غير ذلك الكثير، إرهاصا لبداية تخلّق اتجاه جديد لابد أن يعلن عن نفسه في السينما المصرية.
و لعلنا نلاحظ أن المخرج "عاطف الطيب" كان من أكثر مخرجي الواقعية الجديدة ظهورا و انتشارا و تميزا، لا لأنه أجودهم فنيا؛ و لكن لأنه كان أكثرهم التصاقا بالجماهير و تعبيرا عن الطبقات الكادحة من الشعب المصري و التعبير عن آمالهم و آلامهم و طموحاتهم و معاناتهم الشديدة التي استطاع نقلها إلى شاشة السينما بصدق، و لعل فيلمه الثاني "سواق الأتوبيس"1983 يعد من أكثر أفلامه واقعية و ميلودرامية أيضا و اقترابا من الناس و معاناتهم حينما قدم سائق الأتوبيس الذي يحاول باستماتة إنقاذ ورشة والده من البيع في المزاد العلني في حين أن الجميع غير مهتمين بذلك و ما صاحب هذا من أخلاقيات الأنا التي ابتعدت عن الاهتمام بالغير، تلك الأخلاق الجديدة التي صاحبت فترة الانفتاح الاقتصادي و ما صاحبها من تغير قيمي و أخلاقي و سلوكي، ثم تتالت أفلام المخرج "عاطف الطيب" فيما بعد فقدم عام1984 فيلمه "الزمار" الذي منعته الرقابة منعا باتا من العرض الجماهيري، و إن كان قد شارك في مهرجانات موسكو، برلين، القاهرة- نظرا لما يحمله من رسالة ثورية تحث الناس على المطالبة بحقوقهم- على الرغم من تجريدية الفيلم و ابتعاده التام عن السياق الواقعي الذي يميز سينما "عاطف الطيب" و اعتماده أكثر على الفكرة- إلا أنه سمح له بالتداول على أشرطة فيديو فقط- ثم رأينا عام1986 ثلاثة أفلام هامة دفعة واحدة و هي "الحب فوق هضبة الهرم"، "ملف في الآداب"، "البرئ" و هنا نلاحظ أنه اقترب في فيلميه الأوليين كثيرا من معاناة الطبقات الكادحة و البرجوازية في المجتمع المصري، فنراه في الفيلم الأول يصور معاناة شابين تزوجا و لا يستطيعا إيجاد شقة يمارسا من خلالها حياتهما الطبيعية، إلى أن يندمجا- في لحظة عاطفية و في مفارقة واضحة تحت سفح الهرم- في ممارسة حبهما فيتم القبض عليهما بدعوى الفعل الفاضح و اتهامهما بدلا من اتهام المجتمع و السلطة اللذين يتحملان العبء الأكبر مما حدث، بينما نراه في الثاني يقدم فتاة يعرض عليها أحد الشباب الزواج و بالتالي فلم تكن تتخيل أن ذهابها معه هي و صديقيها و رئيسها في العمل لرؤية شقته التي يمتلكها في وسط البلد ستكون سببا لاتهامهم جميعا بالدعارة من قبل أحد الضباط المصابين بالبارانويا- و ما أكثرهم، و كأن وزارة الداخلية حريصة على اختيار المرضى النفسيين ليكونوا ضباطا أو أنهم يتعلمون مثل هذه الأمراض داخل كلية الشرطة-، إلا أنه في فيلمه الثالث يكاد يكون تخطى الخطوط الحمراء رقابيا و سياسيا بحديثه عن بطش السلطة و ما يدور في المعتقلات من تعذيب و قتل و إهانة؛ و بالتالي حدثت لهذا الفيلم مجزرة رقابية و تم منعه من العرض و لم يتم الإفراج عنه إلا بعد حذف مشهد النهاية الذي يعد أهم ما في الفيلم لاكتمال رسالته الثورية التي يرغب في قولها.
و من هنا نلاحظ ملاحظة هامة مفادها أن اهتمام "عاطف الطيب" بالتعبير عن الطبقات الكادحة و البرجوازية و معاناة القسم الأكبر من المجتمع المصري كان هو شغله الشاغل و هاجسه الذي يؤرقه دائما، و لقد كان يرجع دائما السبب في مثل هذا الاهتمام إلى بطش السلطة و اختلال النظام السياسي الذي نعيش في ظله، نلاحظ ذلك في قوله (مشكلات الطبقة المتوسطة التي أعبر عنها سينمائيا ناتجة في أغلبها عن قهر سياسي.. انه القهر الذي تواجهه إذا دخلت أي قسم بوليس في مصر.. فلن تعامل معاملة كريمة إلا لو كنت رئيس جمهورية.. إحساس المواطن بالقهر يجعله في حالة كمون مرعب.. و أرى أن مهمتي كمخرج هي تحضير هذا المواطن و تجهيزه للحظة الانقضاض، و إقناعه أن الكلام في السياسة ليس تطاولا)[2] و لهذا بدت جميع أفلامه تقريبا و كأنها رسالة تحريضية للمواطن المهضوم حقه، الذي يعاني ليل نهار من تلك السلطة الغاشمة التي تنتهكه ساعة بعد أخرى.
و لذلك لم يكن غريبا على "عاطف الطيب" أن يقدم لنا فيلمه "ليلة ساخنة" الذي نراه أكثر أفلامه على الإطلاق اكتمالا فنيا سواء من ناحية السرد السينمائي أو من ناحية المضمون- على الرغم من يقيننا التام أن فكرة الكمال الفني هي فكرة منتفية دائما لأنه لا يمكن لها أن تحدث- و لعل هذا الاكتمال الفني له من العوامل المساعدة "لعاطف الطيب" الكثير الذي أدى إلى خروج فيلمه في النهاية بمثل هذا الشكل الفني الناضج، و قد يكون من أهم هذه العوامل أن كاتب السيناريو هو السيناريست المخضرم "رفيق الصبان" بينما كتب الحوار "محمد أشرف"، و قد شارك السيناريست المميز "بشير الديك" كليهما في كتابة السيناريو و الحوار.
و بالرغم من إيماننا بأن المخرج الجيد لا يمكنه صناعة فيلم سينمائي محترم فنيا إلا إذا كان بين يديه ورقا مكتوبا بشكل جيد، ففي المقابل أيضا نرى أن الورق الجيد لا يمكن أن يصنع مخرجا جيدا، و من هنا فقد اجتمع عاملان هامان لصناعة هذا الفيلم- الورق الجيد، و المخرج الواعي الجاد- بالإضافة إلى عامل آخر أكثر أهمية و هو النضج الفني و الخبرة التي اكتسبها "عاطف الطيب" منذ بدايته عام1982 حتى قام بإخراج هذا الفيلم الذي خرج بهذا الشكل المكتمل.
و لذلك رأينا "عاطف الطيب" في هذا الفيلم أكثر روية، و أكثر بعدا عن الميلودرامية، بل و أكثر اهتماما بمعاناة الطبقة البسيطة- العريضة- من المجتمع المصري، تلك الطبقة التي لا يهتم بها الكثير من صناع السينما على الرغم من أن معاناتهم تكاد تكون فانتازية بشكل عبثي و كأنها خارجة من مسرح اللامعقول لدى "يوجين يونسكو"، "صمويل بيكيت"، فرأيناه يعبر عنها و يتحدث بلسانهم و إحساسهم حتى لقد بدا الفيلم و كأنه نقلا تاما و كاملا لحياة كاملة من المعاناة و القهر لأناس تحاول نسيان قهرها و أزماتها و معاناتها من أجل محاولة الحياة، و من هنا كان الفيلم حياة حقيقية شديدة الواقعية و التأثير و ليس فيلما يؤديه مجموعة من الممثلين.
و ربما كان أهم ما يميز "ليلة ساخنة" أنه قد اتخذ تيمة الرحلة أو الطريق مسارا لهذا الفيلم العميق الذي يدور في ليلة واحدة داخل أعماق ليل القاهرة و هي ليلة رأس السنة (الكريسماس) لنكتشف من خلال هذه الليلة/الرحلة مجتمعا يمور بالكثير جدا من التناقضات التي بدت لنا على الرغم من إحساسنا بها و حياتنا داخلها يوميا و كأنها غريبة علينا لم نرها من قبل و لم نعرفها- و هذا هو سمة الإبداع الجيد الصادق الذي ينقل لنا العادي المألوف و كأنه غريب علينا لأول مرة نلمسه و نعيشه، فيؤثر فينا و نتأثر به، و من ثم لابد أن نتساءل في نهاية الأمر (لما يحدث كل ذلك للملايين من المصريين الذين أهينت كرامتهم بمثل هذا الشكل؟ و لما تفعل بنا السلطة كل ذلك؟)-.
و لعل تيمة الرحلة أو الطريق ليست بجديدة على سينما "عاطف الطيب" الذي قدمها من قبل في بداياته الأولى من خلال فيلمه الهام "سواق الأتوبيس"1983 ، كذلك نستطيع ملاحظة تيمة الرحلة في فيلمه "دماء على الإسفلت"1992 حينما عاد الأخ الأكبر (نور الشريف) من الخارج ليجد أسرته شديدة التفكك، كل شخص في طريق، فيبدأ رحلة البحث و التحري عن كل من شقيقه و شقيقته خاصة بعد اتهام والده بالسرقة لأحد ملفات القضايا الهامة فيفاجأ في النهاية بأن شقيقته قد تحولت إلى فتاة ليل و تتعاطى الهيروين هي و شقيقها الآخر، كذلك فيلمه الهام "كشف المستور"1994 الذي يصور "سلوى"( نبيلة عبيد) التي حاولت تماما نسيان ماضيها في العمل المخابراتي- كداعرة تخدم الوطن على السرير- و فضلت أن تعيش كسيدة مجتمع مرموقة، إلا أن بعض رجال المخابرات لا يتركونها و شأنها و من ثم يطالبونها بعملية جديدة على فراش أحد الدبلوماسيين العرب، و هنا تبدأ رحلة البحث عن رئيسها المخابراتي السابق (يوسف شعبان) الذي أكد لها هي و زميلاتها حينما قررن ترك هذا العمل أن جميع الملفات و الصور و الشرائط الخاصة بهم قد تم إحراقها، إلا أنها اكتشفت الآن بأنها مهددة بفضحها من خلال هذه الصور و الشرائط إذا لم ترضخ لمثل هذه العملية، و من خلال رحلة بحث طويلة لمحاولة التأكد من ذلك يدور الفيلم، كي يكتشف رئيسها السابق-معها- أن الجميع و هو منهم قد تم خداعه تحت ستار خدمة الوطن في حين كان الأمر في حقيقته لا يعدو أكثر من دعارة و قوادة تقوم بها الدولة و السلطة نفسها، و لقد تم حذف دور "يوسف شعبان" بالكامل تقريبا كضابط مخابرات سابق في هذا الفيلم بأيدي السيد الرقيب، و لعل هذا ليس بالغريب على سينما "عاطف الطيب" الذي تعرضت جل أفلامه للبتر و الحذف و المنع، بل و اتهامه أيضا هو و جميع طاقم العمل معه في فيلم "ناجي العلي"1992 بالخيانة و العمالة نظرا لأنه في جميع أفلامه تجاوز الخطوط الحمراء في مهاجمة السلطة و كشف زيفها.
نقول أن تيمة الرحلة/الطريق في أفلام "عاطف الطيب" لم تكن بغريبة عنه، إلا أنها لم تكن واضحة تماما بالمعنى المألوف لدى العامة إلا من خلال فيلميه "سواق الأتوبيس" الذي دارت معظم أحداثه في الأتوبيس، و فيلمه "ليلة ساخنة" الذي دارت أحداثه كلها تقريبا في التاكسي.
و لذلك نرى "حورية" (لبلبة) الفتاة الفقيرة التي تحاول الحياة بشرف بعد أن تناست تماما ماضيها كفتاة ليل و فضلت العمل كفرّاشة و خادمة كي تنفق و تربي شقيقتها الصغيرة الطالبة، إلا أن "عاطف الطيب" يحرص منذ بداية الفيلم على الإفصاح عن أزمتها المالية القصوى، فهي في حاجة ماسة لمبلغ قد نراه نحن شديد البساطة بينما هو بالنسبة لها ضخما ضخامة الجبال، و هو مبلغ ثلاثمائة جنيه كي تشارك في ترميم البيت الذي تسكن فيه، و الذي نجا من الزلزال و إلا سيتم طردها إلى الشارع بلا مأوى؛ و لذلك نراها تفكر في بيع السلسلة الذهبية المزينة لعنقها كي تدفع المبلغ بدلا من التشرد في الشارع، إلا أن جارها و زميلها في العمل "لمعي" (محمد شرف) يطلب منها التخديم على مجموعة من السهارى الذين سيقضون ليلة رأس السنة في إحدى العوامات، و حينما تعترض على ذلك رافضة و مؤكدة أنها تركت حياتها الماضية تماما و ترغب الحياة بشرف نراه يؤكد لها أنها ستقوم بخدمتهم فقط و تقديم المشروبات و الثلج و أن أقصى ما يمكن حدوثه هو القيام بالرقص لهم إذا اقتضى الأمر في مقابل مبلغ خمسمائة جنيه؛ و لأنها في حاجة قصوى للمال و إلا تم طردها من منزلها توافق على مضض مؤكدة عليه أنها لن تقوم بأكثر من الخدمة و الرقص إذا تطلب الأمر ذلك، لكنها تفاجأ بسائق (الرجل الكبير) صاحب السهرة يهددها مستخدما مطواته إذا لم تدخل الغرفة مع سيده لمضاجعته، و بالتالي تضطر إلى الاستسلام تحت ضغط التهديد و حاجتها للمال، في حين أن الرجل لا يفعل أكثر من وضع رأسه على صدرها و البكاء ثم يعطيها المال بسخاء مما يجعلنا نظن أن أزمتها قد انتهت، إلا أن سائقه "زقزوق" (حسن الأسمر) يدخل عليها الغرفة ليأخذ منها المال عنوة، بل و يستولي على سلسلتها الذهبية التي كانت هي الحل الوحيد للخروج من أزمتها، ثم يقوم بضربها و طردها من العوامة و إلقائها في الشارع.
و لعلنا نلاحظ هنا ملاحظة هامة ساقها المخرج "عاطف الطيب" بذكاء في طيات فيلمه، و هي أن جميع أفراد هذا المجتمع- الهش و المتفسخ على الرغم من بساطتهم و معاناتهم جميعا إلا أن الجميع- يسطو على الجميع بقسوة غير مألوفة و كأننا في مجتمع يأكل فيه القوي الضعيف حتى الموت، فنرى حارس العوامة المعدم حينما يلمح "حورية" (لبلبة) داخلة للعوامة يستوقفها مستفسرا و لا يسمح لها بالمرور إلا بعد جباية مبلغ خمسة جنيهات (كتذكرة) أو رسم دخول، كذلك السائق "زقزوق" (حسن الأسمر) يتعدى عليها بالضرب و سرقة أموالها و سلسلتها الذهبية و طردها للشارع و غير ذلك من المواقف الكثيرة في الفيلم، و لكن بالرغم من تلك القسوة التي يتعامل بها هؤلاء البسطاء مع بعضهم البعض لا نستطيع امتلاك دليل إدانة واحد ضدهم أو مبرر واحد لكراهيتهم؛ نتيجة لأن "عاطف الطيب" قدمهم كشخصيات مطحونة راغبة في لقمة العيش بأي سبيل نتيجة السياسات السلطوية و الاقتصادية المنهارة التي يمر بها المجتمع المصري على أيدي حاكميه منذ فترة ليست بالقصيرة، هذا فضلا عن سياسات القهر السلطوي، فيبدو لنا الأمر دائما و كأنه تفريغ لطاقات القهر المخزونة داخل هؤلاء الأشخاص على بعضهم البعض بما أنهم غير قادرين على توجيه هذه الطاقة في اتجاه السلطة؛ فالسلطة تقهر الجميع من الفقراء، و الفقراء يقهرون من هم أضعف منهم في متوالية دائمة حتى نصل إلى الحلقة الأضعف التي لا خيار أمامها سوى الاستسلام أو الانهيار بترك مجتمع القهر الفوضوي بالموت.
و بالتالي نرى "حورية"(لبلبة) تحاول الهروب و الاستغاثة بأية سيارة مارة، و من ثم تتوقف في عرض الطريق أمام التاكسي الذي يقوده "سيد" (نور الشريف) و الذي يمر بأزمة اقتصادية طاحنة هو الآخر نتيجة لإصابة حماته- التي تقوم برعاية ولده المعاق ذهنيا بعد وفاة زوجته- بجلطة في أول الليل، و حينما يسرع بأخذها إلى المستشفى يفاجأ بضرورة دخولها العمليات في الصباح الباكر، و لكي يتم ذلك تطلب منه الممرضة العديد من الطلبات المستحيلة بالنسبة له قائلة (عايزين أنبوبة أكسجين دلوقتي حالا، وواحدة تانية عشان العملية بكرة، و دوا، و شاش و بنج لزوم العملية) و حينما يسألها (عدم المؤاخذة، هي دي مش مستشفى حكومي؟) ترد ساخرة (آه، بس ما فيهاش الحاجات دي، كفاية انك مش حتدفع للدكتور أجرة ايده، و لا حتدفع فتح أوضة عمليات، و لا أجرة دكتور بنج) في نقل قوي و صريح وواضح لما يدور في مستشفيات مصر من إهمال و فوضى و استهانة بأرواح المرضى من الفقراء على الرغم من ادعاء النظام الحاكم ليل نهار أن هذه المستشفيات مجهزة لخدمة المواطنين و إنقاذ أرواحهم، و كأنهم يتحدثون إلينا من بلاد (واق الواق) و لابد منا نحن البسطاء تصديق أكاذيبهم التي يختلقونها كي يصدقونها هم باعتبارنا نعيش في كوكب المريخ، و بالتالي يقع "سيد" (نور الشريف) في مأزق الحصول على مبلغ ثلاثمائة جنيه خلال هذه الليلة و إلا لن يقوم الطبيب بإجراء العملية لحماته في الصباح، فنراه يعد الممرضة بالإتيان بالمبلغ في الصباح معتمدا على أن الليلة رأس السنة و ربما يرزقه الله بهذا المبلغ أثناء قيادته الليلية.
و لكن لابد من ملاحظة أن "عاطف الطيب" قد استطاع بمهارة و حذق فني و ذكاء بالغ إدخالنا إلى عالمه الذي يرغب في تقديمه دون افتعال أو اختلاق للأحداث لتبدأ رحلة ليلية شديدة الكابوسية لكل من "حورية" (لبلبة)، "سيد"(نور الشريف) طوال الليل القاهري الساهر في ليلة رأس السنة، فتتمثل كابوسيتها بالنسبة "لحورية" في البحث عن "زقزوق" (حسن الأسمر) الذي سرق مالها و سلسلتها الذهبية- أملها الوحيد في عدم التشرد- و بالنسبة "لسيد" في الحصول على المبلغ- أمله الوحيد في إجراء العملية لحماته التي ترعى ولده الوحيد- و من هنا تتلاقى أزمتيهما في طريق واحد، و لأنها تحكي ظروفها "لسيد"(نور الشريف) و تتوسل إليه مساعدتها في العودة إلى العوامة باعتباره قريبها- لأنهم إذا وجدوا معها رجلا ربما يخشونه و يعيدون إليها أموالها- يوافق بشهامة و يذهب معها ليجدهم قد خرجوا للسهر في أحد كباريهات شارع الهرم، و هنا تتوسل إليه أخذها هناك للبحث عنهم قائلة أن الخمسمائة جنيه في كل الأحوال كانت ضائعة فإذا ما ذهب معها ستعطيه نصفهم و تأخذ هي النصف الآخر، و لأنه لم يستطع ترك فتاة ضعيفة وحدها في مثل هذا المأزق، و لأن الظروف كانت دائما في غير صالحه منذ بداية الليل و كأن القدر يصر على إحكام أزمته، فنراه بعد أن يتفق مع أحد الزبائن على عشرة جنيهات مقابل توصيله من وسط البلد إلى عين شمس يخل الرجل باتفاقه معه حينما يصل إلى منزله و يصر على إعطائه خمسة جنيهات فقط بل و الادعاء بأنه- سيد- حاول الاعتداء عليه و بالتالي يتم تحرير مخالفة له و سحب رخصة قيادته من قبل أمين الشرطة المتواجد، و مرة أخرى حينما يطلب منه أحد الزبائن إيصاله إلى الإسكندرية في مقابل مائتين من الجنيهات و يوافق على ذلك، يقابل ذلك الزبون أحد أصدقاءه الذي يقود سيارته الخاصة في بداية الطريق فيفضل النزول من التاكسي للعودة إلى الإسكندرية مع صديقه و بالتالي تضيع عليه المائتين جنيه، و لذلك يوافق "سيد"(نور الشريف) على الذهاب معها في رحلة البحث عن هؤلاء الذين سطوا عليها لتصبح رحلة أشبه بالبحث عن المستحيل.
و لقد لاحظنا أن الفنان (نور الشريف) كان في أنضج حالاته الفنية في هذا الفيلم؛ فرأينا على وجهه ملامح الحيرة و الانكسار و قلة الحيلة طوال مشاهد الفيلم و لعل السبب في ذلك عمله مع مخرج متمكن من أدواته الفنية مثل (عاطف الطيب) الذي استطاع بذكاء تقديم (لبلبة) ربما هي للمرة الأولى في هذا الشكل الناضج فنيا الذي لم نرها فيه من قبل، بل واكتشاف الكثير من قدراتها الفنية التمثيلية، فنراها تقول بصدق مؤثر (اللي زينا ينزل يشتغل و يطلع عين اللي خلفوه على ما يجيب الجنيه) فيرد عليها بائسا (و يا ريته بيروّح بيه).
و لعل هذا الذكاء لدى "عاطف الطيب" الذي جعله يلمح تلك المقدرة الفنية عند (لبلبة) هو ما جعله أيضا يلتقط بذكاء فني الكثير من تحولات المجتمع الجديدة الظاهرة في المجتمع المصري؛ فنرى "سيد"(نور الشريف) حينما يحاول المرور بسيارته (التاكسي) من أحد الشوارع الرئيسية يجده مغلقا بمجموعة ضخمة من الملتحين الواقفين للاستماع إلى شيخهم الواعظ لهم و المعترض على الاحتفال بالكريسماس، و الراغب في ذات الوقت بتطبيق حد الزنا، و حينما يرغب "سيد"(نور الشريف) في المرور يقوم أحد الملتحين بضرب مقدمة سيارته بعصا غليظة في يده قبل السماح له بالمرور مما يؤدي إلى إتلافها.
و هكذا نرى العديد من العوامل الكابوسية و المعطلة لهما في طريقهما/رحلتيهما للبحث عن أموالهما، فتارة يطارده مجموعة من الشباب العابث الذين يلمحون "حورية"(لبلبة) معه في التاكسي و يصرون على أخذها منه لقضاء الليلة معها، و تارة يجد تاكسي قد اضطرمت فيه النيران فيضطر إلى الهبوط لمحاولة الاشتراك في إطفائه، و تارة ثالثة يعود إليه مجموعة الشباب الذين يختلقون معه عراكا لأخذ "حورية" بالقوة و حينما يدافع عنها يضربونه على رأسه بعصا غليظة و يهربون مما يؤدي إلى جرح رأسه و نزيفه، و هكذا تتحول رحلة البحث طوال الليل إلى كابوس طويل لا ينتهي.
إلى أن يركب معه "البنهاوي"(سيد زيان) للتوجه إلى المطار، ثم يطلب منه الذهاب إلى أحد الأماكن قبل الاستمرار في طريقهما، و هناك تحدث مشادة بينه و بين(عزت أبو عوف) لأن "البنهاوي"(سيد زيان)- الذي يقوم بتهريب الشباب إلى اليمن و منها إلى أفغانستان لتفريخ المزيد من الإرهابيين، بالإضافة إلى متاجرته في المخدرات- يرفض إعطاؤه كل المبلغ المتفق عليه، و هنا تحدث مطاردة دامية بين التاكسي الذي يقوده "سيد"(نور الشريف) و بداخله "البنهاوي"(سيد زيان) و بين (عزت أبو عوف) و من معه، لتنتهي المطاردة بمقتل "البنهاوي" على يد مطارديه؛ فيضطر كل من "سيد"، "حورية" للهروب، إلا أنهما يكتشفا أن حقيبة "البنهاوي" التي كانت بيده فيها الكثير من الأموال التي تقرب من المليون، و هنا يقعا في أزمة شديدة الحيرة و لذلك نراهما في بيت "حورية"(لبلبة) بينما الأموال على المنضدة و قد وقفا ينظران إليها بحيرة و خوف، و حينما تحاول "حورية" إقناعه بأن الأموال من حقهما يصر على عدم أخذها و من ثم تسليمها للشرطة مكتفيا بنصيبهما القانوني منها و هو نسبة الـ10% ، فتوافق "حورية" على مضض، و لأنها تخاف القبض عليه بالإضافة إلى رغبتها في المال تطلب منه ترك الحقيبة معها في السيارة كي يدخل هو قسم الشرطة و يرى كيف ستصير الأمر معه، و هناك يفتشونه تفتيشا ذاتيا دقيقا معاملين إياه بإهانة و غلظة، و حينما يجدون معه الكارت الشخصي "للبنهاوي"(سيد زيان) و الذي كان قد أعطاه له بعد إيهامه بأنه يقوم بالتسفير إلى الدول العربية يتهمونه بقتله، و كان دليلهم على ذلك الدماء التي تغطي ملابسه و ذلك الجرح الذي في رأسه الحادث بفعل عراكه مع مجموعة الشباب الراغبين في "حورية"، فيقول له ضابط الشرطة (دا مسجل أمن دولة و مخدرات و أموال عامة... أنت تبع أي فرع فيهم؟) و هنا ينقلب الأمر إلى كابوس حقيقي بالنسبة "لسيد"(نور الشريف) الذي رغب في عدم أخذ أموال ليست من حقه و ذهب لتسليمها و التبليغ عن جريمة قتل فووجه بالقتل و الكثير من التهم الموجهة إليه، و بالتالي يحجم عن إخبارهم بالمال الذي في السيارة مكتفيا بإعطائهم حقيبة السفر الأخرى التي كانت على سقف التاكسي، لنرى "حورية"(لبلبة) تسير وحيدة في الشارع المظلم و قد قزمتها الكاميرا بينما تحمل حقيبة المال على كتفها في انتظار أمل خروج "سيد"(نور الشريف) من أزمته التي وقع فيها.
علّنا نلاحظ هنا أن أمانة الشرفاء حينما تضحى كابوسا لابد لنا أن نتساءل لماذا يحدث كل ذلك في حق هؤلاء المطحونين الذين ليس لهم ذنب في هذه الدنيا سوى الحياة في مجتمع متمزق يحكمه مجموعة من اللصوص من خلال سياسات سلطوية مهترئة من أجل المزيد من تجويعهم و قمعهم يساعدهم في ذلك الكثيرين من الأفاقين و رجال الأعمال الذين يأكلون حقوق هؤلاء المظلومين؟ و لماذا نرى مستشفياتنا التي من المفترض الحفاظ على أرواحنا بمثل هذا الشكل من الإهمال و الفوضى؟ و لماذا يضطر مجموعة من الشباب خريجي كليات الهندسة و العلوم للعمل كحارسي سيارات أمام الكباريهات و حينما يسألهم "سيد" مندهشا عن السبب في ذلك يردون عليه (مش أحسن ما نستنى المصروف؟) و لماذا كل هذا الكابوس الطويل الذي يعيشه المجتمع المصري بسبب حكامه؟
لعل تلك هي الرسالة التي حرص المخرج على إيصالها بإلحاح من خلال جميع أفلامه السينمائية التي قدمها، إلا أنها بدت في ذلك الفيلم- و من خلال هذه الرحلة الطويلة التي انتهت بمأساة صارخة- في شكل طاغ، و لكن هل من الممكن أن يجد المصريون بارقة أمل لالتقاط أنفاسهم من السلطة الغاشمة التي تنهشهم ليل نهار؟
علّ تلك الرحلة الطويلة التي رأيناها و التي أثارت داخلنا الكثير من الألم مما يحدث تكون دافعا للتحرك ضد ما يتم في حقنا بدلا من الانسحاق و الصمت و ثقافة الاستكانة التي بدت واضحة بشكل صارخ في قول "حورية(لبلبة) حينما قال لها "سيد" بعد أن اعتدى أحد الملتحين على سيارته (شوية ماعندهمش خشا و لا دين، و شوية عايزين يخنقونا و يحرّموا علينا حتى الهوا اللي بنتنفسه) فترد عليه بانسحاق ( يا خويا... إحنا مالنا و مال السياسة؟ المهم نشوف شغلنا)!!
محمود الغيطاني
من كتاب سينما الطريق
نماذج من السينما العربية
[1] أنظر كتاب "الموجة الثالثة في السينما الواقعية الإيطالية" لمؤلفه "موسى الخميسي" / سلسلة الفن السابع / العدد87 / منشورات وزارة الثقافة السورية/ المؤسسة العامة للسينما / دمشق2005
[2] أنظر مجلة سينما أون لاين و الموضوع الهام الذي كتبه وائل حمدي بعنوان "الطيب و السلطة"/ العدد11 / يناير2003
No comments:
Post a Comment