ربما كان النجاح الحقيقي الذي حققه المخرج "علي إدريس" من خلال فيلمه الأخير "حريم كريم" هو إظهاره لتلك الأزمة الخانقة التي تمر بها السينما و النقد السينمائي في مصر، و من ثم إثارته للعديد من التساؤلات التي هي في حاجة ماسة و صادقة للإجابة عليها؛ فمن خلال هذا الفيلم استطاع "علي إدريس" أن يقول لنا أن معظم النقاد المصريين لا يتناولون الفيلم السينمائي إلا من خلال غرائزهم أولا، ثم التباكي على الأيام الجميلة التي مضت و التي كانت تتمتع فيها السينما المصرية بالحيوية من خلال ما تقدمه لنا- نظرا لحالة مستعصية من النوستالوجيا المصاب بها معظم النقاد- ، و في النهاية تأتي فنيات الفيلم التي لا بد أن يتحدث عنها الناقد حتى يثبت للقارئ و صناع السينما علمه التام بكيفية صناعة الفيلم السينمائي- و ها هو يتحدث فيها كأستاذ عليم لا بد من الاستماع له-.
و لعل مثل هذه الأمور مجتمعة كانت السبب الرئيس في تساؤلنا.. هل هناك بالفعل نقد سينمائي حقيقي في مصر أم أن الأمر لا يعدو أكثر من رغبة عميقة في تسويد الأوراق من قبل البعض الذين يصبون حقدهم على هذا الفيلم/المخرج أو ذاك؟
علّ النظرة المتأنية لما يدور حولنا في الساحة الثقافية و الفنية الآن تكاد أن تجزم بعدم وجود مثل هذا النقد الحقيقي سواء في مجال الأدب أو السينما، بل و استشراء المجاملات و الشللية في جميع مجالات الفن و من ثم تحول الكثير من نقاد السينما إلى مجرد أرقام مجردة لمجموعة كبيرة من النقاد، إلا أن هذه الأرقام المجردة لا تثمن و لا تغني من جوع بما تقدمه لنا من غث فاسد قد ترحب بفيلم مثل "اللي بالي بالك" للمخرج "وائل إحسان" 2003 –كما فعل بعض النقاد- في حين تهاجم فيلما مثل "جنة الشياطين" للمخرج "أسامة فوزي" 2000 ، أو فيلما مثل "عرق البلح" للراحل "رضوان الكاشف" 1998 –تحت دعوى ذهنية مثل هذه الأفلام-
و هنا تحولت الساحة النقدية السينمائية إلى ساحة من لا عمل له؛ فصرنا نرى كتابات نقدية لا تمت للنقد بصلة نظرا لأن كاتبها قد وجد نفسه فجأة بقدرة قادر محررا أو مشرفا على الصفحة الفنية في إحدى المطبوعات فبات يكتب ما لا يفهمه هو فضلا عن القارئ الغلبان الذي لا بد أن يقرأ أي هراء غث قد كتب له.
و لعل ما يحدث اليوم مع فيلم "حريم كريم" يثبت بشكل قاطع ذلك التناقض العجيب الذي يعيشه نقاد السينما المصرية الذين يرفضون أحيانا ما يتم تقديمه من أفلام متهافتة و تافهة مثل"اللمبي" للمخرج "وائل إحسان" 2002 ، "عوكل" للمخرج "محمد النجار" 2005 ، "بوحة" للمخرج "رامي إمام" 2005 – و نحن بالتأكيد معهم في مثل ذلك الرفض؛ لأنه إذا ما سارت السينما المصرية على هذا النهج من البلاهة و السذاجة المفتقدة في الأساس لفنية الفيلم السينمائي تحت دعوى تقديم الكوميديا فمصيرها الحتمي هو الموت و الانقراض- إلا أنهم في الوقت الذي يرفضون فيه ذلك يأخذون ذات الاتجاه مع فيلم مثل "حريم كريم" الذي يقدم لنا قصة إلى حد كبير محترمة اجتماعيا قياسا لما يتم تقديمه في الآونة الأخيرة، هذا فضلا عن تقديمها الكوميديا بشكلها المقبول حيث لا تعتمد على أية بذاءات لفظية أو حركية- فلم نر مثلا خالتي "أطاطا" تهتف بصوتها الكريه و شكلها المنفر (قوم يا ابن الكلب) ظنا أن ذلك سوف يضحك الجمهور الذي هو بلا شك نتاج هذه البيئة إذا ما تقبل ما يتم تقديمه له- بل تعتمد فقط على كوميديا الموقف و المفارقات الاجتماعية.
بل و الأعجب أن نرى بعض نقاد السينما الذين ينتقدون الفيلم نتيجة لأن بطلاته قد ظهرن في بعض المشاهد بالمايوهات و كأن هذا جرم و فضيحة و عار لا بد من مهاجمة الفيلم بسببه، أو كأن الفيلم يتعمد تقديم المشاهد الساخنة و العارية- على الرغم من عدم وجود ذلك- إلا أن مثل هذا الموقف الغريب من بعض نقاد السينما لا بد أن يجعلنا نتساءل (هل شاهد هؤلاء النقاد الفيلم بالفعل قبل الكتابة عنه؟ أم أنهم كتبوا ما كتبوه دون مشاهدته معتمدين في ذلك على سماع رأي البعض من المحافظين و المتحفظين و غلاة الأخلاق؛ فاندفعوا لامتطاء أقلامهم المشحوذة سلفا و من ثم صبوا جام غضبهم على الفيلم؟).
بل إن ذلك الموقف يستدعي إلى ذاكرتنا ما حدث منذ سنوات حينما بدأ البعض يتعالى صوته غاضبا نتيجة لما يشاهده في السينما المصرية- معتقدين في ذلك أنه عري و بذاءة- ليطالبوا بوجود ما أسموه وقتها بالسينما النظيفة و سينما الأسرة و ما إلى ذلك من كلمات و اصطلاحات غريبة و صعبة على السينما المصرية و من ثم جاراهم في ذلك العديد من الإعلاميين و بعض مدعي الثقافة و الجوقة التي تخشى الخروج عن سياق العرف الجمعي السائد- حتى و إن كانوا غير مقتنعين به-.
إلا أنه إذا كان قد حدث مثل هذا الأمر مع بعض متوسطي الثقافة فنحن لم نكن نتخيل على الإطلاق أن يصل الأمر في ذلك إلى نقاد السينما المصرية كي تبدأ أصواتهم في الارتفاع و الضجيج ليطالبوا بدورهم- و كأنهم يمارسون دور الرقيب الاجتماعي- بحذف أية مشاهد عارية تقدمها السينما المصرية حتى و إن كان ذلك في سياق البناء الفيلمي.
إن ما يحدث اليوم مع فيلم "حريم كريم" من قبل بعض نقاد السينما يجعلني أتخيل سيناريو فكاهيا غريبا- لا أستطيع الفكاك منه- بقدر ما هو مخجلا، أرى فيه بعض نقاد السينما و كأنهم مجموعة من المراهقين ما أن يستمعوا أن هناك فيلما به بعض المشاهد العارية إلا و يهرعون لمشاهدته مستمتعين، إلا أنهم بعد انتهاء متعة المشاهدة النكوصية الاستمنائية يسارعون بارتداء ثوب الوقار و الحكمة و الأخلاق و من ثم يبدأون في إلقاء المواعظ و شحذ أقلامهم لصب جام غضبهم على الفيلم و مخرجه و فريق العمل الذي قام بصناعة ذلك الفيلم الداعر.
و حتى يكون حديثنا أكثر تحديدا و قربا من الموضوعية فنحن لا ننكر أننا قد اندفعنا لمشاهدة فيلم "حريم كريم" تحت ضغط العديد من الأقاويل التي قيلت عنه و عن كون بطلاته يظهرن عاريات "بالبكيني"، و من ثم مهاجمة الكثيرين للمخرج "علي إدريس" و السيناريست "زينب عزيز" مما أعطانا انطباعا بأن المخرج "علي إدريس" قد بدأ يتاجر مثل غيره من مخرجي اليوم إما بالمجانية اللفظية و الذوق المنحط الذي يتم تقديمه لنا كوجبة يومية في السينما المصرية، أو بتقديم العري المجاني في أفلامه للعب و من ثم التربح من غرائز الجمهور، إلا أننا لم نستطع مشاهدة مشهد عري واحد داخل سياق الفيلم الذي كان متناسقا تماما مع موضوعه و بالتالي اندهشنا دهشة قصوى من مهاجمة العديد من النقاد للمشهد الذي ظهرت فيه بعض البطلات بالمايوه في شرم الشيخ؛ نظرا لأن المشهد لم يكن مقحما على السياق الفيلمي، و لأنه ليس مطلوبا من بطلات الفيلم الذهاب إلى البحر بالجلابيب و الحلل و الوابور أو ترتدي الواحدة منهن غطاء رأس و من ثم تأمن مهاجمة النقاد لها، هذا فضلا عن أن المخرج "علي إدريس" في ذلك المشهد الذي كان خلفية لإحدى أغاني الفيلم لم يركز بالكاميرا أو يتوقف أمام إحدى البطلات أو المايوهات التي كانت الكاميرا تمر عليها مرور الكرام.
بل ووصل من مراهقة بعض النقاد إلى أن اندفع بعضهم لمهاجمة الفيلم نتيجة لأن (هالة رفعت)- الفنانة علا غانم- كانت شرهة في تدخين السجائر طوال الوقت مما جعلنا نتعجب أيما تعجب من هذا الكلام غير المسئول و الذي كان مأخذا على الفيلم و من ثم تساءلنا هل تدخين المرأة اليوم قد صار جريمة لا بد أن يعاقب عليها القانون، أو بمعنى آخر لا بد من نفي الفيلم السينمائي و رفضه نظرا لأن إحدى شخصياته النسائية تدخن بشراهة؟
و من ناحية أخرى كان مبعث اندهاشنا أن شخصية "علا غانم" في السيناريو مرسومة هكذا و تلك من صفاتها الأساسية التي تعبر عن امرأة مستقلة بها الكثير من الغيرة و الأكثر من القلق و الحقد على غيرها من الصديقات، و رفضها القولي للكثير من الرجال على الرغم من رغبتها الدفينة في صديقها القديم (كريم الحسيني) "مصطفى قمر" و إن كان ذلك يعبر عن شئ فهو يعبر عن ازدواجية شخصيتها- و من ثم تساءلنا عن هؤلاء النقاد الذين أخذوا عليها ذلك المأخذ، هل هو لحقد داخلهم تجاه صناع الفيلم أم لمراهقتهم الطفولية التي يتمتعون بها و التي تجعلهم يهاجمون السينما المصرية على طول الخط، أم لأنهم لم يستطيعوا التواصل مع الفيلم و من ثم فشلوا في فهمه و تحليل شخصية "علا غانم"؟
أعتقد أن مثل هذه التساؤلات المعلقة و المنطلقة في الهواء الطلق يستطيع الكثير من المشاهدين الإجابة عليها خاصة أن الفيلم ليس بهذه الدرجة من الرداءة و الإسفاف التي صورها لنا العديدون من نقاد السينما المصرية، لا سيما و أن المخرج "علي إدريس" من المخرجين الذين يعرفون جيدا كيفية استخدام أدواتهم الفنية، و لعل فيلمه الأول "أصحاب و لا بيزنس" 2001 خير دليل على مقدرته الفنية، يل و تجربته الطويلة في العمل كمساعد مخرج للعديد من المخرجين ذوي الشأن في تاريخ السينما المصرية مثل القدير "رأفت الميهي" في (ست الستات) 1998 ، (تفاحة) 1997 ، و الجميل "خيري بشارة" في (حرب الفراولة) 1993 ، "شريف عرفة" في (النوم في العسل) 1996، (طيور الظلام) 1995 ، المخرج "عادل أديب" في (هيستريا) 1998 ، و لعلنا نلاحظ من خلال تجربة "علي إدريس" السابقة كمساعد مخرج أنه قد بدأ عمله و من ثم اكتسب خبراته الإخراجية مع مخرجين لهم قدرهم في أعمال سينمائية رفيعة القيمة و بالتالي بدأ بدايته الجميلة عام 2001 في "أصحاب و لا بيزنس" ، و نتيجة لذلك فهو لا يمكن أن يقع في ذلك الفخ الذي اتهمه به الكثيرون من نقاد السينما.
فنراه يقدم لنا فيلمه بعد إهدائه الجميل (إلى أصدقائي دفعة 1987 .. المعهد العالي للسينما) و لعل قصة الفيلم الذي كتبته زوجته/السيناريست "زينب عزيز" قد جعلته في حالة حنين إلى أيام الشباب و الجامعة و ذكرياتها الجميلة التي ما زلنا نذكرها جميعا في حالة شجن جميل و من ثم كتب هذا الإهداء في المقدمة، فنراه يقدم (مصطفى قمر) "كريم الحسيني" الذي يدرّس اللغة الإنجليزية في المعهد الثقافي البريطاني و قد التقى بإحدى تلميذاته الجديدات "جي جي" (ياسمين عبد العزيز) التي تنشأ بينهما قصة حب ملتهبة لا تلبث أن تنتهي إلى أقرب مأذون للزواج، كل ذلك يقدمه المخرج "علي إدريس" بدون أية إطالة أو مط للحدث الفيلمي من خلال مرور سريع على الأحداث في مشاهد ما قبل التيترات avant titre ثم لا تلبث أن تنزل تيترات الفيلم لتنتهي بمشهد طلاق "كريم الحسيني" و زوجته "جي جي" اللذين لم يمر على زواجهما عام واحد فقط مما يجعلنا كمشاهدين في حالة دهشة و تساؤل لهذا التطور السريع في الأحداث بل و غير المبرر، إلا أن "علي إدريس" لا يلبث أن يبرر لنا ما حدث من خلال استخدام تقنية "الفلاش باك" flash back حينما يتوقف "كريم الحسيني" في إحدى إشارات المرور بعد طلاق زوجته و يتذكر السبب وراء ذلك الطلاق فنعرف أن ابن خاله "ماجد" (طلعت ذكريا) قد فاجأه في بيته مصطحبا معه فتاتين من فتيات الليل و بينما يحاول "كريم" التخلص منهم جميعا و إخراجهم من شقته، بل و إفهام ابن خاله أنه ليس معنى عدم وجود زوجته في البيت أن يقلب البيت "جرسونيرة" تدخل زوجته فجأة فتشاهد "ماجد" (طلعت ذكريا) في ثيابه الداخلية مع إحداهن بينما الأخرى تحاول إغراء زوجها "كريم" و هنا تنسحب الزوجة رافضة إعطاؤه أية فرصة كي يشرح لها موقفه أو يبرر لها ما حدث.
و لعل هذا الموقف الذي اتخذته الزوجة (ياسمين عبد العزيز) لها فيه الكثير من العذر و مقبول إلى حد كبير؛ لأن أي زوجة أيا كانت لا بد أن تتخذ موقفها ، و لذلك اندهشنا كثيرا حينما أنكر أحد النقاد ذلك الموقف منها تحت دعوى أنها مثقفة- حيث تعمل بالمجلس الأعلى للآثار- و من ثم فإنها لا بد أن تتيح له الفرصة كي يشرح لها موقفه، بل و كان ما أفزعنا حقا أن يبرر ذلك الناقد عدم قبولها مناقشة زوجها فيما حدث بأن ذلك كان متعمدا من قبل صنّاع الفيلم رغبة منهم في استمرار الأحداث و من ثم مطها بلا مبرر- و كأن الزوجة المثقفة مطلوبا منها إذا رأت زوجها في أحضان غيرها أن تتراجع و تغلق الباب ثم تناقشه فيما بعد في أسباب ذلك الفعل- فنحن نعتقد أن أية زوجة مهما كانت درجة ثقافتها لا بد أن تتخذ ذات الموقف الذي اتخذته "جي جي" (ياسمين عبد العزيز) و بالتالي كان ذلك الكلام الذي أطلقه أحد النقاد فيه الكثير من عدم المسئولية و الفهم السطحي للنفس البشرية و من ثم التجني على الفيلم.
و هنا يحاول "كريم" (مصطفى قمر) أن يلتقي بزوجته كي يشرح لها موقفه بكافة السبل، فتارة يبعث لها ابن خاله (طلعت ذكريا) الذي ينقلب عليه أمام زوجته نتيجة لعدوانيتها هي و والدتها، و تارة أخرى يفكر في بعث جدته إلا أنها لكبر سنها و إصابتها بالزهايمر تفشل تلك الفكرة، و بينما هو يقلب في أوراق الجامعة و ألبوم صوره مع أصدقائه يتذكر شلته القديمة من الصديقات التي كان مرتبطا عاطفيا بإحداهن بينما كانت الأخريات معجبات به، فيتصل بحبيبته السابقة "مها شكري" (داليا البحيري) كي تساعده في تلك الأزمة التي وقع فيها و من ثم تحاول شرح موقفه لزوجته، إلا أن مكالمته (لداليا البحيري) تثير غيرة و حنق زوجها "حسين" ضابط الشرطة (خالد سرحان) و من ثم يطردها من بيته إلى بيت والدتها التي تجبرها على الذهاب إلى زوجها كي تتصالح معه و بالتالي لم يكن أمامها إلا أن ذهبت "لكريم" طالبة منه أن يستضيفها عنده يومين.
و هنا تبدأ (داليا البحيري) في الحنين إلى أيام الجامعة و حبها الأول و من ثم تحاول إبعاده عن طليقته بدلا من التقريب بينهما، و بينما هو يستمع إلى البرنامج الأوروبي يعرف أن المذيعة هي صديقته القديمة "دينا مندور" (بسمة أحمد) فيسارع بالاتصال بها كي تساعده في حل مشكلته إلا أنها هي الأخرى تحاول إبعاده عن طليقته نظرا لأنها كانت معجبة به و من ثم فهي تريد الاستئثار به لنفسها محاولة في ذات الوقت إبعاد "مها شكري" (داليا البحيري) عنه، و هنا تنقلب حياة "كريم الحسيني" إلى مأساة نظرا لأن الفتاتين تحاول كل منهما إبعاد الأخرى عن طريقه و الاحتفاظ به لنفسها و من ثم فهما تلازمانه طوال الوقت.
و بينما هو يسير مع ابن خاله "ماجد" (طلعت ذكريا) في أحد الشوارع يلتقي بالمصادفة مع "هالة رفعت" (علا غانم) صديقته القديمة أيضا التي تنضم إلى قائمة الصديقتين السابقتين و من ثم يحاولن الثلاثة الإيقاع بينه و بين طليقته بدلا من تقريبهما و الإصلاح بينهما، و في ذات الوقت تحاول كل واحدة منهن إبعاد الأخرى عن طريقه، و هنا يطلب "كريم" من ابن خاله الحضور لشقته كي يقيم معه و من ثم مساعدته على مضايقة الصديقات الثلاث اللاتي لزمن منزله و حولنه إلى جحيم حقيقي بالنسبة له، و يعلم "كريم" أن "جي جي" قد اتجهت إلى شرم الشيخ فيسرع بالاتجاه خلفها محاولا مقابلتها لإصلاح ما بينهما إلا أن الفتيات الثلاث يتبعنه لمحاولة إفساد الأمر، و هناك يلتقي بصديقتهم الرابعة "نيفين" (ريهام عبد الغفور) التي تحاول قدر استطاعتها الإصلاح بينه و بين زوجته و بالفعل تنجح في ذلك بعد إقناع الصديقات الأخريات في الوقوف إلى جانبه.
إلا أنه إذا كان الفيلم بمثل هذا الطابع الاجتماعي و الذي لم يختلق إحدى مشاكله من فراغ، بل جاء بها بالفعل من اليومي الاجتماعي الذي قد يحدث لأي واحد منا في أي وقت، فنحن لا نستطيع على الإطلاق قبول المصادفة غير المبررة التي سارت بها أحداث السيناريو كي يلتقي "كريم" بصديقتيه "هالة رفعت" (علا غانم)، "نيفين" (ريهام عبد الغفور)؛ لأن مثل هاتين المصادفتين كانتا مصنوعتين تماما من قبل السيناريست "زينب عزيز"- ربما كي تخرج من مأزقها لإكمال السيناريو أو لاستمرارية الحدث الذي أعدت له قبل كتابة السيناريو- و اللاتي كانت تستطيع أن تأتي بهما بشكل آخر تماما يكون أكثر قبولا و منطقية، فإذا كنا قد تقبلنا مقابلته لصديقتيه الأوليين فذلك لأن لهذه المقابلة ما يبررها في السياق الفيلمي، إلا أن المصادفتين الأخريين ليست لهما أي مبررات على الإطلاق؛ لأنه لا يمكن أن تجتمع الظروف بمثل هذه الآلية في وقت واحد، لا سيما أنه في ورطة يحتاج إلى من يخرجه منها.
إلا أن هذه الهنّة البسيطة من قبل السيناريست "زينب عزيز" لا تكاد تذكر أمام السيناريو الجيد الذي استطاعت تقديمه باقتدار و قدرة سلسة و رائعة على الحكي و الاسترسال و نسج الحكاية، بل و هذا الطابع الرومانسي الجميل الذي وضح كثيرا في ثنايا الفيلم- لا سيما أنه العمل الأول الذي يتم تقديمه على شاشة السينما لكاتبته و لعلها فيما بعد تستطيع اكتساب الخبرة التقنية فتتخلص من مثل هذه الأمور- هذا فضلا عن الطابع الكوميدي الراقي المرح الذي ظهر لنا طول الفيلم و الذي أضاف إليه الكثير من البهجة نتيجة للمفارقات غير المصطنعة التي جاءت في ثنايا الفيلم.
بالتأكيد نحن لا ندعي أن الفيلم على درجة عالية من الإتقان أو الإبهار و الرقي الفني- لأننا إذا ادعينا ذلك نكون قد جانبنا الصواب و الموضوعية- و لكن الأكيد بالنسبة لنا- و لغيرنا فيما نعتقد- أن الفيلم على درجة لا بأس بها فنيا؛ فهو يحاول أن يقدم لنا شكلا فنيا مغايرا و مقبولا، بل و محترما عما يتم تقديمه لنا في الآونة الأخيرة و بالتالي كان اندهاشنا من ذاك الهجوم الحاد الذي ووجه به.
و إذا كان الفيلم بمثل هذا الشكل الجيد و المقبول إلى حد كبير- فيما نظن- فنحن نبدي دهشتنا من قول بعض النقاد أن الفيلم يمثل حالة من الشيزوفرانيا الاجتماعية و الفكرية التي نحياها اليوم، بل و يسترسل في حديثه ليحكم بأن الفيلم معقما و بعيدا عن الواقع بمعنى أنه لا يعبر عن هموم الطبقة المطحونة في المجتمع و ما إلى ذلك من تلك الأقاويل العجيبة التي لا نجد لها مبررا أو دليلا من الصحة بقدر ما هي متجنية على الفيلم و صنّاعه؛ لأن النظرة المتأملة للواقع الكئيب الذي نحياه في مصر الآن- نظرا للفساد السياسي و الاقتصادي- تدلل لنا على حقيقة مرّة نعرفها جميعا فحواها أن المجتمع المصري قد بات طبقتين لا ثالث لهما، إحداهما شديدة الفقر و الحاجة المادية، و الأخرى فاحشة الثراء، و الفيلم حينما تحدث عن عالمه الفيلمي الخاص تحدث عن طبقة غنية ممثلة في مدرّس بالمركز الثقافي البريطاني، و زوجته العاملة بالمجلس الأعلى للآثار، و مذيعة البرنامج الأوروبي، و سيدة الأعمال، و الأخرى التي تلقت تعليمها في الخارج و من ثم تقضي معظم أوقاتها في السفر، و بالتالي مثل هذه الشخصيات لا يمكن أن تعوزها الحاجة المادية و من ثم فهم يعبرون عن عالمهم الخاص الذي يعيشون فيه- و عن مشاكلهم هم لا مشاكل غيرهم- إلا إذا كان هؤلاء النقاد الذين هاجموا الفيلم- تحت دعوى أنه قدم عالما نظيفا من الحاجة و الفقر و ما إلى ذلك- يطلبون من المخرج تقديم مدرس اللغة الإنجليزية "كريم الحسيني" الذي يعمل في المركز الثقافي البريطاني مرتديا ثيابه الممزقة التي لم يقربها الماء منذ عام و بالتالي تنطلق منه رائحة نتنة كي يرضى عنه هؤلاء النقاد، أو هم يريدونه مطلقا لحيته حتى خصره، مرتديا الجلباب و السروال كي يعبر عن أزمة ما يرغبونها هم تثبت كونه مغيبا في غياهب الدروشة.
فماذا يريد هؤلاء النقاد من المخرج "علي إدريس" كي يقدمه لهم و قد حدد منذ البداية الطبقة الاجتماعية التي يريد الحديث عنها؟ أعتقد أن المخرج لم يخدعهم منذ البداية مدعيا أنه سيتحدث عن سكان هضبة المقطم أو سكان مقابر البساتين ثم فاجأهم فيما بعد بما جاء في الفيلم، بل هو حدد الشخصيات التي يريد الحديث عنها منذ البداية.
أم أن هؤلاء النقاد لا يرغبون سوى في الحديث عن الفقر و الفقراء و الحاجة الشديدة للمال و المرض و المخدرات و المشردين و ما إلى ذلك حتى يهللوا للمخرج و من ثم يصبح الفيلم واقعيا و غير معقم؟ بل إن ذلك يجعلنا نتساءل هل هذه الشرائح الاجتماعية التي يرغبها النقاد هي الشرائح الوحيدة الممثلة للمجتمع المصري؟ أم أنهم تناسوا أن هناك طبقة أخرى فاحشة الثراء- قد تكون معتدلة أو شديدة الفساد- و لكن لا بد من الحديث عنها أيضا و التعبير عن قضاياها و مشاكلها نظرا لأنها جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع؟
إن ما يدهشنا حقا أن الكثيرين من النقاد قد باتوا يقيّمون الفن و الإبداع و بالتالي ينظرون إليه من منظور أخلاقي ضيق الرؤية- و لعلهم في ذلك يحاولون مسايرة المجموع الجمعي الذي يتميز أغلبه بسطحية النظرة- فباتوا يحكمون على الفن بمنطق العيب و الحلال و الحرام و ما إلى ذلك، إلا أن النظرة إلى الفن بمثل هذا المنظور الضيق الرؤية، الشديد السطحية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى موت الفن الذي هو خارج هذا المعيار القميء و القاتل لكل ما هو حقيقي.
إلا أنه لا يسعنا سوى شكر المخرج "علي إدريس" على فيلمه الأخير "حريم كريم" الذي أخرجنا من مستنقع "محمد سعد" ، "عبلة كامل" و شركاهم بما يقدمونه دائما من أفلام تافهة، متهافتة فنيا بلا أية قصة على الإطلاق أو أية مواصفات لفنية الفيلم السينمائي، بل و نشكره لأنه استعاد نفسه مرة أخرى فقدم لنا فيلما يليق به بعد "أصحاب و لا بيزنس" 2001 متناسين في ذلك فيلمه "التجربة الدانماركية" 2003 الذي سقط من ذاكرتنا بمجرد مشاهدتنا له.
كما لا يسعنا إلا شكر المونتير "منار حسني" التي كان لها كثير الفضل في سرعة و انسيابية الحدث الفيلمي بمونتاجها الجميل، لا سيما مشاهد ما قبل التيترات avant titre ، كذلك ما يليها من مشاهد.
إلا أن التحية الخاصة التي لا بد منها فهي تخص فريق الممثلين خاصة "خالد سرحان" ، "طلعت ذكريا" اللذين أثبتا أنهما على قدر غير قليل من الموهبة الفنية الحقيقية إذا ما استطاعا استغلالها الاستغلال الأمثل و اهتما قدر جهدهما بانتقاء الأدوار التي تبرز فيهما تلك القدرة التمثيلية؛ خاصة و أن الفيلم قد أضاء داخلهما مناطق تمثيلية بارعة لم تكن ظاهرة من قبل حينما قاما بأدوار كوميدية فيها الكثير من الرقي البعيد عن الابتذال و الافتعال و الافيهات التي لا معنى لها- و سوف نحاول في ذلك قدر استطاعتنا تناسي ذلك الدور الذي لا معنى له على الإطلاق الذي قام به الفنان "خالد سرحان" فيما قبل مع الفنان "عادل إمام" ، "علي إدريس" أيضا في "التجربة الدانماركية" 2003 و الذي لم يستطع فيه المخرج "علي إدريس" استخراج الموهبة الحقيقية و من ثم استغلال إمكانيات "خالد سرحان" ربما لأن مركزية عادل إمام/ النجم و تعاظم ذاته قد منعا المخرج و الفنان من ذلك-.
كذلك "داليا البحيري" التي قدمت لنا- ربما هي للمرة الأولي- دورا مختلفا عن أدوراها السابقة تماما فأثبتت أنها تستطيع أداء العديد من الأدوار المختلفة و من ثم إتقانها على وجهها الأمثل، و هذا إن دل فهو يدل على مقدرتها الفنية البارعة.
إلا أنني أرغب في توجيه تحية صادقة وخاصة جدا للفنانة "علا غانم" التي تثبت لنا يوما بعد آخر أنها من أفضل ممثلات السينما المصرية في الوقت الراهن- على الرغم من قصر المدة الزمنية التي ظهرت فيها- بقدرتها البارعة و المدهشة على أداء الشخصية المقدمة لها كما ينبغي لها أن تكون، و لعل النجاح الحقيقي للفنانة "علا غانم" يأتي من صدقها مع ذاتها في المقام الأول ثم صدقها فيما بعد مع الشخصيات التي تؤديها؛ فالفن الصادق يخرج من القلب ليمس قلوب الآخرين مباشرة، و هذا ما تحرص عليه "علا غانم" التي لا تحاول التجمل بالمعنى البراجماتي الوقح وسط جوقة المجموع الجمعي و القيم و الأخلاقيات الجديدة بل و الشاذة على المجتمع التي تحرّم كل شئ-جوقة المجتمع- و بالتالي فهي تحاول مهاجمة و من ثم نفي كل من يخرج عن سياقها الخانق الشاذ، و نتيجة لذلك فنحن نرى "علا غانم" التي تدرس الشخصية التي تؤديها جيدا و تحاول أن تكون في حالة تعايش دائم معها- الشخصية- أيا كانت تلك الشخصية سواء كانت شخصية منحرفة أو سوية- فهي لا ترفض أية شخصية جيدة تحت ستار ما يسمى بالسينما النظيفة و الأخلاق و ما إلى ذلك من تلك الأمور التي لا معنى لها و التي لا تمت للفن بصلة- فنراها تحاول التعايش في حالة صدق فني مع الشخصية التي تؤديها و لعل ذلك ما يجعلني أزعم أن "علا غانم" ستكون على رأس أفضل فنانات السينما المصرية في السنوات القليلة القادمة.
إلا أن التميز اللافت للنظر كان للفنان "مصطفى قمر" الذي نرى أنه فنانا لديه قدرة تمثيلية عالية تتقدم يوما بعد يوم و من فيلم لآخر و بالتالي فهو يثبت لنا أنه لم يدخل مجال التمثيل السينمائي من باب المصادفة أو مزايدة على الأرقام المجردة التي لا معنى لها، أو لمجرد كونه مغنيا يرغب في أداء فيلم غنائي، بل هو فنان حقيقي لديه القدرة على الأداء البارع.
كذلك الفنانة "ياسمين عبد العزيز" التي نضجت كثيرا من الناحية الفنية خلافا لبداياتها الأولى في فيلم "جنون الحياة" 2000 للمخرج "سعيد مرزوق" و بالتالي أمسينا نراها تستطيع التعبير عن الشخصية التي تؤديها بكل براعة حتى من خلال نظراتها المعبرة أو قسمات وجهها الصادقة.
تحية صادقة لهذا الفريق الجميل الذي قدم لنا هذه النسمة العليلة وسط هذا الجحيم اللاهب من أفلام متهافتة يعدو خلفها معظم صناع السينما المصرية.
و لعل مثل هذه الأمور مجتمعة كانت السبب الرئيس في تساؤلنا.. هل هناك بالفعل نقد سينمائي حقيقي في مصر أم أن الأمر لا يعدو أكثر من رغبة عميقة في تسويد الأوراق من قبل البعض الذين يصبون حقدهم على هذا الفيلم/المخرج أو ذاك؟
علّ النظرة المتأنية لما يدور حولنا في الساحة الثقافية و الفنية الآن تكاد أن تجزم بعدم وجود مثل هذا النقد الحقيقي سواء في مجال الأدب أو السينما، بل و استشراء المجاملات و الشللية في جميع مجالات الفن و من ثم تحول الكثير من نقاد السينما إلى مجرد أرقام مجردة لمجموعة كبيرة من النقاد، إلا أن هذه الأرقام المجردة لا تثمن و لا تغني من جوع بما تقدمه لنا من غث فاسد قد ترحب بفيلم مثل "اللي بالي بالك" للمخرج "وائل إحسان" 2003 –كما فعل بعض النقاد- في حين تهاجم فيلما مثل "جنة الشياطين" للمخرج "أسامة فوزي" 2000 ، أو فيلما مثل "عرق البلح" للراحل "رضوان الكاشف" 1998 –تحت دعوى ذهنية مثل هذه الأفلام-
و هنا تحولت الساحة النقدية السينمائية إلى ساحة من لا عمل له؛ فصرنا نرى كتابات نقدية لا تمت للنقد بصلة نظرا لأن كاتبها قد وجد نفسه فجأة بقدرة قادر محررا أو مشرفا على الصفحة الفنية في إحدى المطبوعات فبات يكتب ما لا يفهمه هو فضلا عن القارئ الغلبان الذي لا بد أن يقرأ أي هراء غث قد كتب له.
و لعل ما يحدث اليوم مع فيلم "حريم كريم" يثبت بشكل قاطع ذلك التناقض العجيب الذي يعيشه نقاد السينما المصرية الذين يرفضون أحيانا ما يتم تقديمه من أفلام متهافتة و تافهة مثل"اللمبي" للمخرج "وائل إحسان" 2002 ، "عوكل" للمخرج "محمد النجار" 2005 ، "بوحة" للمخرج "رامي إمام" 2005 – و نحن بالتأكيد معهم في مثل ذلك الرفض؛ لأنه إذا ما سارت السينما المصرية على هذا النهج من البلاهة و السذاجة المفتقدة في الأساس لفنية الفيلم السينمائي تحت دعوى تقديم الكوميديا فمصيرها الحتمي هو الموت و الانقراض- إلا أنهم في الوقت الذي يرفضون فيه ذلك يأخذون ذات الاتجاه مع فيلم مثل "حريم كريم" الذي يقدم لنا قصة إلى حد كبير محترمة اجتماعيا قياسا لما يتم تقديمه في الآونة الأخيرة، هذا فضلا عن تقديمها الكوميديا بشكلها المقبول حيث لا تعتمد على أية بذاءات لفظية أو حركية- فلم نر مثلا خالتي "أطاطا" تهتف بصوتها الكريه و شكلها المنفر (قوم يا ابن الكلب) ظنا أن ذلك سوف يضحك الجمهور الذي هو بلا شك نتاج هذه البيئة إذا ما تقبل ما يتم تقديمه له- بل تعتمد فقط على كوميديا الموقف و المفارقات الاجتماعية.
بل و الأعجب أن نرى بعض نقاد السينما الذين ينتقدون الفيلم نتيجة لأن بطلاته قد ظهرن في بعض المشاهد بالمايوهات و كأن هذا جرم و فضيحة و عار لا بد من مهاجمة الفيلم بسببه، أو كأن الفيلم يتعمد تقديم المشاهد الساخنة و العارية- على الرغم من عدم وجود ذلك- إلا أن مثل هذا الموقف الغريب من بعض نقاد السينما لا بد أن يجعلنا نتساءل (هل شاهد هؤلاء النقاد الفيلم بالفعل قبل الكتابة عنه؟ أم أنهم كتبوا ما كتبوه دون مشاهدته معتمدين في ذلك على سماع رأي البعض من المحافظين و المتحفظين و غلاة الأخلاق؛ فاندفعوا لامتطاء أقلامهم المشحوذة سلفا و من ثم صبوا جام غضبهم على الفيلم؟).
بل إن ذلك الموقف يستدعي إلى ذاكرتنا ما حدث منذ سنوات حينما بدأ البعض يتعالى صوته غاضبا نتيجة لما يشاهده في السينما المصرية- معتقدين في ذلك أنه عري و بذاءة- ليطالبوا بوجود ما أسموه وقتها بالسينما النظيفة و سينما الأسرة و ما إلى ذلك من كلمات و اصطلاحات غريبة و صعبة على السينما المصرية و من ثم جاراهم في ذلك العديد من الإعلاميين و بعض مدعي الثقافة و الجوقة التي تخشى الخروج عن سياق العرف الجمعي السائد- حتى و إن كانوا غير مقتنعين به-.
إلا أنه إذا كان قد حدث مثل هذا الأمر مع بعض متوسطي الثقافة فنحن لم نكن نتخيل على الإطلاق أن يصل الأمر في ذلك إلى نقاد السينما المصرية كي تبدأ أصواتهم في الارتفاع و الضجيج ليطالبوا بدورهم- و كأنهم يمارسون دور الرقيب الاجتماعي- بحذف أية مشاهد عارية تقدمها السينما المصرية حتى و إن كان ذلك في سياق البناء الفيلمي.
إن ما يحدث اليوم مع فيلم "حريم كريم" من قبل بعض نقاد السينما يجعلني أتخيل سيناريو فكاهيا غريبا- لا أستطيع الفكاك منه- بقدر ما هو مخجلا، أرى فيه بعض نقاد السينما و كأنهم مجموعة من المراهقين ما أن يستمعوا أن هناك فيلما به بعض المشاهد العارية إلا و يهرعون لمشاهدته مستمتعين، إلا أنهم بعد انتهاء متعة المشاهدة النكوصية الاستمنائية يسارعون بارتداء ثوب الوقار و الحكمة و الأخلاق و من ثم يبدأون في إلقاء المواعظ و شحذ أقلامهم لصب جام غضبهم على الفيلم و مخرجه و فريق العمل الذي قام بصناعة ذلك الفيلم الداعر.
و حتى يكون حديثنا أكثر تحديدا و قربا من الموضوعية فنحن لا ننكر أننا قد اندفعنا لمشاهدة فيلم "حريم كريم" تحت ضغط العديد من الأقاويل التي قيلت عنه و عن كون بطلاته يظهرن عاريات "بالبكيني"، و من ثم مهاجمة الكثيرين للمخرج "علي إدريس" و السيناريست "زينب عزيز" مما أعطانا انطباعا بأن المخرج "علي إدريس" قد بدأ يتاجر مثل غيره من مخرجي اليوم إما بالمجانية اللفظية و الذوق المنحط الذي يتم تقديمه لنا كوجبة يومية في السينما المصرية، أو بتقديم العري المجاني في أفلامه للعب و من ثم التربح من غرائز الجمهور، إلا أننا لم نستطع مشاهدة مشهد عري واحد داخل سياق الفيلم الذي كان متناسقا تماما مع موضوعه و بالتالي اندهشنا دهشة قصوى من مهاجمة العديد من النقاد للمشهد الذي ظهرت فيه بعض البطلات بالمايوه في شرم الشيخ؛ نظرا لأن المشهد لم يكن مقحما على السياق الفيلمي، و لأنه ليس مطلوبا من بطلات الفيلم الذهاب إلى البحر بالجلابيب و الحلل و الوابور أو ترتدي الواحدة منهن غطاء رأس و من ثم تأمن مهاجمة النقاد لها، هذا فضلا عن أن المخرج "علي إدريس" في ذلك المشهد الذي كان خلفية لإحدى أغاني الفيلم لم يركز بالكاميرا أو يتوقف أمام إحدى البطلات أو المايوهات التي كانت الكاميرا تمر عليها مرور الكرام.
بل ووصل من مراهقة بعض النقاد إلى أن اندفع بعضهم لمهاجمة الفيلم نتيجة لأن (هالة رفعت)- الفنانة علا غانم- كانت شرهة في تدخين السجائر طوال الوقت مما جعلنا نتعجب أيما تعجب من هذا الكلام غير المسئول و الذي كان مأخذا على الفيلم و من ثم تساءلنا هل تدخين المرأة اليوم قد صار جريمة لا بد أن يعاقب عليها القانون، أو بمعنى آخر لا بد من نفي الفيلم السينمائي و رفضه نظرا لأن إحدى شخصياته النسائية تدخن بشراهة؟
و من ناحية أخرى كان مبعث اندهاشنا أن شخصية "علا غانم" في السيناريو مرسومة هكذا و تلك من صفاتها الأساسية التي تعبر عن امرأة مستقلة بها الكثير من الغيرة و الأكثر من القلق و الحقد على غيرها من الصديقات، و رفضها القولي للكثير من الرجال على الرغم من رغبتها الدفينة في صديقها القديم (كريم الحسيني) "مصطفى قمر" و إن كان ذلك يعبر عن شئ فهو يعبر عن ازدواجية شخصيتها- و من ثم تساءلنا عن هؤلاء النقاد الذين أخذوا عليها ذلك المأخذ، هل هو لحقد داخلهم تجاه صناع الفيلم أم لمراهقتهم الطفولية التي يتمتعون بها و التي تجعلهم يهاجمون السينما المصرية على طول الخط، أم لأنهم لم يستطيعوا التواصل مع الفيلم و من ثم فشلوا في فهمه و تحليل شخصية "علا غانم"؟
أعتقد أن مثل هذه التساؤلات المعلقة و المنطلقة في الهواء الطلق يستطيع الكثير من المشاهدين الإجابة عليها خاصة أن الفيلم ليس بهذه الدرجة من الرداءة و الإسفاف التي صورها لنا العديدون من نقاد السينما المصرية، لا سيما و أن المخرج "علي إدريس" من المخرجين الذين يعرفون جيدا كيفية استخدام أدواتهم الفنية، و لعل فيلمه الأول "أصحاب و لا بيزنس" 2001 خير دليل على مقدرته الفنية، يل و تجربته الطويلة في العمل كمساعد مخرج للعديد من المخرجين ذوي الشأن في تاريخ السينما المصرية مثل القدير "رأفت الميهي" في (ست الستات) 1998 ، (تفاحة) 1997 ، و الجميل "خيري بشارة" في (حرب الفراولة) 1993 ، "شريف عرفة" في (النوم في العسل) 1996، (طيور الظلام) 1995 ، المخرج "عادل أديب" في (هيستريا) 1998 ، و لعلنا نلاحظ من خلال تجربة "علي إدريس" السابقة كمساعد مخرج أنه قد بدأ عمله و من ثم اكتسب خبراته الإخراجية مع مخرجين لهم قدرهم في أعمال سينمائية رفيعة القيمة و بالتالي بدأ بدايته الجميلة عام 2001 في "أصحاب و لا بيزنس" ، و نتيجة لذلك فهو لا يمكن أن يقع في ذلك الفخ الذي اتهمه به الكثيرون من نقاد السينما.
فنراه يقدم لنا فيلمه بعد إهدائه الجميل (إلى أصدقائي دفعة 1987 .. المعهد العالي للسينما) و لعل قصة الفيلم الذي كتبته زوجته/السيناريست "زينب عزيز" قد جعلته في حالة حنين إلى أيام الشباب و الجامعة و ذكرياتها الجميلة التي ما زلنا نذكرها جميعا في حالة شجن جميل و من ثم كتب هذا الإهداء في المقدمة، فنراه يقدم (مصطفى قمر) "كريم الحسيني" الذي يدرّس اللغة الإنجليزية في المعهد الثقافي البريطاني و قد التقى بإحدى تلميذاته الجديدات "جي جي" (ياسمين عبد العزيز) التي تنشأ بينهما قصة حب ملتهبة لا تلبث أن تنتهي إلى أقرب مأذون للزواج، كل ذلك يقدمه المخرج "علي إدريس" بدون أية إطالة أو مط للحدث الفيلمي من خلال مرور سريع على الأحداث في مشاهد ما قبل التيترات avant titre ثم لا تلبث أن تنزل تيترات الفيلم لتنتهي بمشهد طلاق "كريم الحسيني" و زوجته "جي جي" اللذين لم يمر على زواجهما عام واحد فقط مما يجعلنا كمشاهدين في حالة دهشة و تساؤل لهذا التطور السريع في الأحداث بل و غير المبرر، إلا أن "علي إدريس" لا يلبث أن يبرر لنا ما حدث من خلال استخدام تقنية "الفلاش باك" flash back حينما يتوقف "كريم الحسيني" في إحدى إشارات المرور بعد طلاق زوجته و يتذكر السبب وراء ذلك الطلاق فنعرف أن ابن خاله "ماجد" (طلعت ذكريا) قد فاجأه في بيته مصطحبا معه فتاتين من فتيات الليل و بينما يحاول "كريم" التخلص منهم جميعا و إخراجهم من شقته، بل و إفهام ابن خاله أنه ليس معنى عدم وجود زوجته في البيت أن يقلب البيت "جرسونيرة" تدخل زوجته فجأة فتشاهد "ماجد" (طلعت ذكريا) في ثيابه الداخلية مع إحداهن بينما الأخرى تحاول إغراء زوجها "كريم" و هنا تنسحب الزوجة رافضة إعطاؤه أية فرصة كي يشرح لها موقفه أو يبرر لها ما حدث.
و لعل هذا الموقف الذي اتخذته الزوجة (ياسمين عبد العزيز) لها فيه الكثير من العذر و مقبول إلى حد كبير؛ لأن أي زوجة أيا كانت لا بد أن تتخذ موقفها ، و لذلك اندهشنا كثيرا حينما أنكر أحد النقاد ذلك الموقف منها تحت دعوى أنها مثقفة- حيث تعمل بالمجلس الأعلى للآثار- و من ثم فإنها لا بد أن تتيح له الفرصة كي يشرح لها موقفه، بل و كان ما أفزعنا حقا أن يبرر ذلك الناقد عدم قبولها مناقشة زوجها فيما حدث بأن ذلك كان متعمدا من قبل صنّاع الفيلم رغبة منهم في استمرار الأحداث و من ثم مطها بلا مبرر- و كأن الزوجة المثقفة مطلوبا منها إذا رأت زوجها في أحضان غيرها أن تتراجع و تغلق الباب ثم تناقشه فيما بعد في أسباب ذلك الفعل- فنحن نعتقد أن أية زوجة مهما كانت درجة ثقافتها لا بد أن تتخذ ذات الموقف الذي اتخذته "جي جي" (ياسمين عبد العزيز) و بالتالي كان ذلك الكلام الذي أطلقه أحد النقاد فيه الكثير من عدم المسئولية و الفهم السطحي للنفس البشرية و من ثم التجني على الفيلم.
و هنا يحاول "كريم" (مصطفى قمر) أن يلتقي بزوجته كي يشرح لها موقفه بكافة السبل، فتارة يبعث لها ابن خاله (طلعت ذكريا) الذي ينقلب عليه أمام زوجته نتيجة لعدوانيتها هي و والدتها، و تارة أخرى يفكر في بعث جدته إلا أنها لكبر سنها و إصابتها بالزهايمر تفشل تلك الفكرة، و بينما هو يقلب في أوراق الجامعة و ألبوم صوره مع أصدقائه يتذكر شلته القديمة من الصديقات التي كان مرتبطا عاطفيا بإحداهن بينما كانت الأخريات معجبات به، فيتصل بحبيبته السابقة "مها شكري" (داليا البحيري) كي تساعده في تلك الأزمة التي وقع فيها و من ثم تحاول شرح موقفه لزوجته، إلا أن مكالمته (لداليا البحيري) تثير غيرة و حنق زوجها "حسين" ضابط الشرطة (خالد سرحان) و من ثم يطردها من بيته إلى بيت والدتها التي تجبرها على الذهاب إلى زوجها كي تتصالح معه و بالتالي لم يكن أمامها إلا أن ذهبت "لكريم" طالبة منه أن يستضيفها عنده يومين.
و هنا تبدأ (داليا البحيري) في الحنين إلى أيام الجامعة و حبها الأول و من ثم تحاول إبعاده عن طليقته بدلا من التقريب بينهما، و بينما هو يستمع إلى البرنامج الأوروبي يعرف أن المذيعة هي صديقته القديمة "دينا مندور" (بسمة أحمد) فيسارع بالاتصال بها كي تساعده في حل مشكلته إلا أنها هي الأخرى تحاول إبعاده عن طليقته نظرا لأنها كانت معجبة به و من ثم فهي تريد الاستئثار به لنفسها محاولة في ذات الوقت إبعاد "مها شكري" (داليا البحيري) عنه، و هنا تنقلب حياة "كريم الحسيني" إلى مأساة نظرا لأن الفتاتين تحاول كل منهما إبعاد الأخرى عن طريقه و الاحتفاظ به لنفسها و من ثم فهما تلازمانه طوال الوقت.
و بينما هو يسير مع ابن خاله "ماجد" (طلعت ذكريا) في أحد الشوارع يلتقي بالمصادفة مع "هالة رفعت" (علا غانم) صديقته القديمة أيضا التي تنضم إلى قائمة الصديقتين السابقتين و من ثم يحاولن الثلاثة الإيقاع بينه و بين طليقته بدلا من تقريبهما و الإصلاح بينهما، و في ذات الوقت تحاول كل واحدة منهن إبعاد الأخرى عن طريقه، و هنا يطلب "كريم" من ابن خاله الحضور لشقته كي يقيم معه و من ثم مساعدته على مضايقة الصديقات الثلاث اللاتي لزمن منزله و حولنه إلى جحيم حقيقي بالنسبة له، و يعلم "كريم" أن "جي جي" قد اتجهت إلى شرم الشيخ فيسرع بالاتجاه خلفها محاولا مقابلتها لإصلاح ما بينهما إلا أن الفتيات الثلاث يتبعنه لمحاولة إفساد الأمر، و هناك يلتقي بصديقتهم الرابعة "نيفين" (ريهام عبد الغفور) التي تحاول قدر استطاعتها الإصلاح بينه و بين زوجته و بالفعل تنجح في ذلك بعد إقناع الصديقات الأخريات في الوقوف إلى جانبه.
إلا أنه إذا كان الفيلم بمثل هذا الطابع الاجتماعي و الذي لم يختلق إحدى مشاكله من فراغ، بل جاء بها بالفعل من اليومي الاجتماعي الذي قد يحدث لأي واحد منا في أي وقت، فنحن لا نستطيع على الإطلاق قبول المصادفة غير المبررة التي سارت بها أحداث السيناريو كي يلتقي "كريم" بصديقتيه "هالة رفعت" (علا غانم)، "نيفين" (ريهام عبد الغفور)؛ لأن مثل هاتين المصادفتين كانتا مصنوعتين تماما من قبل السيناريست "زينب عزيز"- ربما كي تخرج من مأزقها لإكمال السيناريو أو لاستمرارية الحدث الذي أعدت له قبل كتابة السيناريو- و اللاتي كانت تستطيع أن تأتي بهما بشكل آخر تماما يكون أكثر قبولا و منطقية، فإذا كنا قد تقبلنا مقابلته لصديقتيه الأوليين فذلك لأن لهذه المقابلة ما يبررها في السياق الفيلمي، إلا أن المصادفتين الأخريين ليست لهما أي مبررات على الإطلاق؛ لأنه لا يمكن أن تجتمع الظروف بمثل هذه الآلية في وقت واحد، لا سيما أنه في ورطة يحتاج إلى من يخرجه منها.
إلا أن هذه الهنّة البسيطة من قبل السيناريست "زينب عزيز" لا تكاد تذكر أمام السيناريو الجيد الذي استطاعت تقديمه باقتدار و قدرة سلسة و رائعة على الحكي و الاسترسال و نسج الحكاية، بل و هذا الطابع الرومانسي الجميل الذي وضح كثيرا في ثنايا الفيلم- لا سيما أنه العمل الأول الذي يتم تقديمه على شاشة السينما لكاتبته و لعلها فيما بعد تستطيع اكتساب الخبرة التقنية فتتخلص من مثل هذه الأمور- هذا فضلا عن الطابع الكوميدي الراقي المرح الذي ظهر لنا طول الفيلم و الذي أضاف إليه الكثير من البهجة نتيجة للمفارقات غير المصطنعة التي جاءت في ثنايا الفيلم.
بالتأكيد نحن لا ندعي أن الفيلم على درجة عالية من الإتقان أو الإبهار و الرقي الفني- لأننا إذا ادعينا ذلك نكون قد جانبنا الصواب و الموضوعية- و لكن الأكيد بالنسبة لنا- و لغيرنا فيما نعتقد- أن الفيلم على درجة لا بأس بها فنيا؛ فهو يحاول أن يقدم لنا شكلا فنيا مغايرا و مقبولا، بل و محترما عما يتم تقديمه لنا في الآونة الأخيرة و بالتالي كان اندهاشنا من ذاك الهجوم الحاد الذي ووجه به.
و إذا كان الفيلم بمثل هذا الشكل الجيد و المقبول إلى حد كبير- فيما نظن- فنحن نبدي دهشتنا من قول بعض النقاد أن الفيلم يمثل حالة من الشيزوفرانيا الاجتماعية و الفكرية التي نحياها اليوم، بل و يسترسل في حديثه ليحكم بأن الفيلم معقما و بعيدا عن الواقع بمعنى أنه لا يعبر عن هموم الطبقة المطحونة في المجتمع و ما إلى ذلك من تلك الأقاويل العجيبة التي لا نجد لها مبررا أو دليلا من الصحة بقدر ما هي متجنية على الفيلم و صنّاعه؛ لأن النظرة المتأملة للواقع الكئيب الذي نحياه في مصر الآن- نظرا للفساد السياسي و الاقتصادي- تدلل لنا على حقيقة مرّة نعرفها جميعا فحواها أن المجتمع المصري قد بات طبقتين لا ثالث لهما، إحداهما شديدة الفقر و الحاجة المادية، و الأخرى فاحشة الثراء، و الفيلم حينما تحدث عن عالمه الفيلمي الخاص تحدث عن طبقة غنية ممثلة في مدرّس بالمركز الثقافي البريطاني، و زوجته العاملة بالمجلس الأعلى للآثار، و مذيعة البرنامج الأوروبي، و سيدة الأعمال، و الأخرى التي تلقت تعليمها في الخارج و من ثم تقضي معظم أوقاتها في السفر، و بالتالي مثل هذه الشخصيات لا يمكن أن تعوزها الحاجة المادية و من ثم فهم يعبرون عن عالمهم الخاص الذي يعيشون فيه- و عن مشاكلهم هم لا مشاكل غيرهم- إلا إذا كان هؤلاء النقاد الذين هاجموا الفيلم- تحت دعوى أنه قدم عالما نظيفا من الحاجة و الفقر و ما إلى ذلك- يطلبون من المخرج تقديم مدرس اللغة الإنجليزية "كريم الحسيني" الذي يعمل في المركز الثقافي البريطاني مرتديا ثيابه الممزقة التي لم يقربها الماء منذ عام و بالتالي تنطلق منه رائحة نتنة كي يرضى عنه هؤلاء النقاد، أو هم يريدونه مطلقا لحيته حتى خصره، مرتديا الجلباب و السروال كي يعبر عن أزمة ما يرغبونها هم تثبت كونه مغيبا في غياهب الدروشة.
فماذا يريد هؤلاء النقاد من المخرج "علي إدريس" كي يقدمه لهم و قد حدد منذ البداية الطبقة الاجتماعية التي يريد الحديث عنها؟ أعتقد أن المخرج لم يخدعهم منذ البداية مدعيا أنه سيتحدث عن سكان هضبة المقطم أو سكان مقابر البساتين ثم فاجأهم فيما بعد بما جاء في الفيلم، بل هو حدد الشخصيات التي يريد الحديث عنها منذ البداية.
أم أن هؤلاء النقاد لا يرغبون سوى في الحديث عن الفقر و الفقراء و الحاجة الشديدة للمال و المرض و المخدرات و المشردين و ما إلى ذلك حتى يهللوا للمخرج و من ثم يصبح الفيلم واقعيا و غير معقم؟ بل إن ذلك يجعلنا نتساءل هل هذه الشرائح الاجتماعية التي يرغبها النقاد هي الشرائح الوحيدة الممثلة للمجتمع المصري؟ أم أنهم تناسوا أن هناك طبقة أخرى فاحشة الثراء- قد تكون معتدلة أو شديدة الفساد- و لكن لا بد من الحديث عنها أيضا و التعبير عن قضاياها و مشاكلها نظرا لأنها جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع؟
إن ما يدهشنا حقا أن الكثيرين من النقاد قد باتوا يقيّمون الفن و الإبداع و بالتالي ينظرون إليه من منظور أخلاقي ضيق الرؤية- و لعلهم في ذلك يحاولون مسايرة المجموع الجمعي الذي يتميز أغلبه بسطحية النظرة- فباتوا يحكمون على الفن بمنطق العيب و الحلال و الحرام و ما إلى ذلك، إلا أن النظرة إلى الفن بمثل هذا المنظور الضيق الرؤية، الشديد السطحية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى موت الفن الذي هو خارج هذا المعيار القميء و القاتل لكل ما هو حقيقي.
إلا أنه لا يسعنا سوى شكر المخرج "علي إدريس" على فيلمه الأخير "حريم كريم" الذي أخرجنا من مستنقع "محمد سعد" ، "عبلة كامل" و شركاهم بما يقدمونه دائما من أفلام تافهة، متهافتة فنيا بلا أية قصة على الإطلاق أو أية مواصفات لفنية الفيلم السينمائي، بل و نشكره لأنه استعاد نفسه مرة أخرى فقدم لنا فيلما يليق به بعد "أصحاب و لا بيزنس" 2001 متناسين في ذلك فيلمه "التجربة الدانماركية" 2003 الذي سقط من ذاكرتنا بمجرد مشاهدتنا له.
كما لا يسعنا إلا شكر المونتير "منار حسني" التي كان لها كثير الفضل في سرعة و انسيابية الحدث الفيلمي بمونتاجها الجميل، لا سيما مشاهد ما قبل التيترات avant titre ، كذلك ما يليها من مشاهد.
إلا أن التحية الخاصة التي لا بد منها فهي تخص فريق الممثلين خاصة "خالد سرحان" ، "طلعت ذكريا" اللذين أثبتا أنهما على قدر غير قليل من الموهبة الفنية الحقيقية إذا ما استطاعا استغلالها الاستغلال الأمثل و اهتما قدر جهدهما بانتقاء الأدوار التي تبرز فيهما تلك القدرة التمثيلية؛ خاصة و أن الفيلم قد أضاء داخلهما مناطق تمثيلية بارعة لم تكن ظاهرة من قبل حينما قاما بأدوار كوميدية فيها الكثير من الرقي البعيد عن الابتذال و الافتعال و الافيهات التي لا معنى لها- و سوف نحاول في ذلك قدر استطاعتنا تناسي ذلك الدور الذي لا معنى له على الإطلاق الذي قام به الفنان "خالد سرحان" فيما قبل مع الفنان "عادل إمام" ، "علي إدريس" أيضا في "التجربة الدانماركية" 2003 و الذي لم يستطع فيه المخرج "علي إدريس" استخراج الموهبة الحقيقية و من ثم استغلال إمكانيات "خالد سرحان" ربما لأن مركزية عادل إمام/ النجم و تعاظم ذاته قد منعا المخرج و الفنان من ذلك-.
كذلك "داليا البحيري" التي قدمت لنا- ربما هي للمرة الأولي- دورا مختلفا عن أدوراها السابقة تماما فأثبتت أنها تستطيع أداء العديد من الأدوار المختلفة و من ثم إتقانها على وجهها الأمثل، و هذا إن دل فهو يدل على مقدرتها الفنية البارعة.
إلا أنني أرغب في توجيه تحية صادقة وخاصة جدا للفنانة "علا غانم" التي تثبت لنا يوما بعد آخر أنها من أفضل ممثلات السينما المصرية في الوقت الراهن- على الرغم من قصر المدة الزمنية التي ظهرت فيها- بقدرتها البارعة و المدهشة على أداء الشخصية المقدمة لها كما ينبغي لها أن تكون، و لعل النجاح الحقيقي للفنانة "علا غانم" يأتي من صدقها مع ذاتها في المقام الأول ثم صدقها فيما بعد مع الشخصيات التي تؤديها؛ فالفن الصادق يخرج من القلب ليمس قلوب الآخرين مباشرة، و هذا ما تحرص عليه "علا غانم" التي لا تحاول التجمل بالمعنى البراجماتي الوقح وسط جوقة المجموع الجمعي و القيم و الأخلاقيات الجديدة بل و الشاذة على المجتمع التي تحرّم كل شئ-جوقة المجتمع- و بالتالي فهي تحاول مهاجمة و من ثم نفي كل من يخرج عن سياقها الخانق الشاذ، و نتيجة لذلك فنحن نرى "علا غانم" التي تدرس الشخصية التي تؤديها جيدا و تحاول أن تكون في حالة تعايش دائم معها- الشخصية- أيا كانت تلك الشخصية سواء كانت شخصية منحرفة أو سوية- فهي لا ترفض أية شخصية جيدة تحت ستار ما يسمى بالسينما النظيفة و الأخلاق و ما إلى ذلك من تلك الأمور التي لا معنى لها و التي لا تمت للفن بصلة- فنراها تحاول التعايش في حالة صدق فني مع الشخصية التي تؤديها و لعل ذلك ما يجعلني أزعم أن "علا غانم" ستكون على رأس أفضل فنانات السينما المصرية في السنوات القليلة القادمة.
إلا أن التميز اللافت للنظر كان للفنان "مصطفى قمر" الذي نرى أنه فنانا لديه قدرة تمثيلية عالية تتقدم يوما بعد يوم و من فيلم لآخر و بالتالي فهو يثبت لنا أنه لم يدخل مجال التمثيل السينمائي من باب المصادفة أو مزايدة على الأرقام المجردة التي لا معنى لها، أو لمجرد كونه مغنيا يرغب في أداء فيلم غنائي، بل هو فنان حقيقي لديه القدرة على الأداء البارع.
كذلك الفنانة "ياسمين عبد العزيز" التي نضجت كثيرا من الناحية الفنية خلافا لبداياتها الأولى في فيلم "جنون الحياة" 2000 للمخرج "سعيد مرزوق" و بالتالي أمسينا نراها تستطيع التعبير عن الشخصية التي تؤديها بكل براعة حتى من خلال نظراتها المعبرة أو قسمات وجهها الصادقة.
تحية صادقة لهذا الفريق الجميل الذي قدم لنا هذه النسمة العليلة وسط هذا الجحيم اللاهب من أفلام متهافتة يعدو خلفها معظم صناع السينما المصرية.
No comments:
Post a Comment